تمرُّ بنا الأيام بأفراحها وأتراحها، ونحن في بحور هذه الدنيا لا نعرف إلى أين تأخذنا، ولكننا مؤمنون بأن مآلنا إلى رب هذا الكون. يولد المولود فيفرح ويسعد أبواه وأهله سعادة لا توصف، وفي المقابل يتوفى آخر فيكون وقع ذلك عظيماً لوفاة ذلك الغالي الذي لم يتخيل ذووه بأنه سوف يأتي اليوم الذي لا يجدونه بينهم.
هذه هي سنة الحياة التي خلقنا الله عليها، ونحن مؤمنون بأن ما يصيبنا من خير أو شر إنما هو مقدَّر من رب العالمين { قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا}، وكل مسلم يعرف بأن من خلق هذه الروح هو الله سبحانه وتعالى، وأن مردَّ هذه الروح لخالقها، وأن ليس هناك معمّر في الكون غير خالقه:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}. لقد فجعتُ أنا ومن حولي بوفاة شقيقتي الكبرى زينب بنت محمد العبدالله المالك مساء يوم الخميس الموافق 8-3-1430هـ، وكم كانت الفاجعة كبيرة علينا، ولكننا مؤمنون بأن ذلك قضاء الله وقدره، وأن كل نفس ذائقة الموت، وقد توفاها الله عن عمر يناهز السبعين عاماً، بعد عناء طويل مع المرض استمر لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً، ولك عزيزي أن تتخيَّل كيف كانت حياة شقيقتي خلال تلك الفترة الطويلة من الآلام، وخصوصاً في الخمس سنوات الأخيرة من عمرها؛ فقد قضت معظمها داخل المشافي بالمملكة وخارجها.
كانت أم خالد مثالاً رائعاً للمسلم الصبور المحتسب للأجر والثواب من رب العالمين؛ حيث لم أرها يوماً من الأيام تجزع مما أصابها من الأمراض والأوجاع التي لا تحتمل، بل إنها كانت دائماً تبتسم وتطمئن من يزورها سواء بالمستشفى أو بالمنزل بأنها بخير وعافية كي لا تكدر الأجواء على من حولها. لم تكن تلك المعاناة لشقيقتي مقتصرة عليها فقط، وإنما عاش جميع من كان حولها لحظات وأياما وسنين عصيبة مرت علينا (زوجها، أبناءها، إخوانها، أخواتها، جميع محبيها) فقد ذقنا جميعاً مرارة المعاناة والألم التي عاشتها خلال حياتها، وأجدها مناسبة لأقف هنا إجلالاً واحتراماً وتقديراً لذلك الزوج الوفي المخلص الذي رسم أروع وأصدق صور الحب والوفاء والتفاني لزوجته، وبذل الغالي والنفيس من مال ووقت وجهد وعطف وحنان وغيرها ليواسي زوجته خلال فترة مرضها الطويلة؛ فقد كان لها منصور الإبراهيم الحمد المالك نعم الزوج والأب والصديق والرفيق والمؤنس، كما كان صورة لأجمل وأصدق معاني الحب الصادق للزوجة، إذ إنه لم يتخلَّ عنها، ولا لحظة واحدة على طول فترة مرضها، وإنما كان ملازما لها في حلها وسفرها، ولم يسمح لنفسه بأن يتركها يوماً واحداً، ولا أن يغيب عن رعايتها والاهتمام بها، مع العلم أن الله تعالى رزقها من الأبناء والبنات الصالحين الذين سخروا أنفسهم ومالهم ووقتهم وجهدهم لها. عاشت المغفور لها -بإذن الله- حياتها محبوبة من الجميع، ولقد تعلمنا منها كيف تكون صلة الرحم، تعاتبنا عندما نغيب عنها لفترة، ولم نكن نعرف أو ندرك: لماذا ذلك العتب؟ وبعد أن أعياها المرض واشتد عليها عرفنا: لم ذلك العتب؟ فقد كان ذلك يتم من حبها لنا ولمن حولها.
سوف أفتقد -شخصياً- ذلك العتاب، وكم سأتمناه الآن ومستقبلاً، ولكن هذه سنة الحياة.
أكتب هذه الكلمات وقلبي يعتصر ألماً، وعيناي تذرفان الدموع على فراق شقيقتي، ولكنني مؤمن بقضاء الله وقدره، وأن هذه الحياة ما هي إلا رحلة عابرة للدار الآخرة. أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يغفر لشقيقتي ويرحمها وأموات المسلمين أجمعين، وأن يجمعنا وإياهم في جنات النعيم، ويلهمنا وذوينا وذوي أموات المسلمين أجمعين الصبر والسلوان. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.