حقاً العلم في الصغر كالنقش في الحجر، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وقديماً قيل: وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان علمه أبوه، في هذا دلالة واضحة على دور الأب وتأثيره على النشء، ويجني الآباء غداً ما غرسوه اليوم في أبنائهم من قيم وعادات وصفات وشيم وأخلاق.
فالأبناء هم بذرة الصلاح، إن أحسن الآباء تربيتهم، وما عليه الكبار اليوم من خلق وتربية وسلوكيات هو - قطعاً - ما غرسه الأجداد من تربية وما بذلوه من جهد لتقويم الأخلاق والسلوك، وتكريس العادات والصفات الإيجابية. ولم يكن آباؤنا اليوم ليصبحوا على ما هم فيه من طباع سليمة ونفوس راضية وقناعة بالواقع وصفات تنسجم مع العادات الأصيلة المستمدة من الشرع أو التي أبقى عليها الإسلام وكانت قائمة من قبل، لولا غرس الأجداد وحرصهم على توريث تلك الصفات، وهو أفيد وأقيم من توريث الدرهم والدينار، فثراء الروح والوجدان يفوق ثراء الجيوب والأرصدة.
ما أحوجنا اليوم إلى ترسيخ مفاهيم وقيم وثقافة السلام والمحبة والتعايش والود مع الآخرين، في زمن باتت تحاصرنا السلوكيات الدخيلة، والتصرفات الغريبة، وما أحوجنا إلى متاريس من القيم والمثل والمفاهيم التي نصد بها طوفان سلوكيات العولمة التي تغمر كل مساحة تجدها أمامها خالية، ورياحها الهوجاء التي تهب من كل الاتجاهات وتعصف بكل متاع خفيف ليس له ثقل، وأمواجها الهادرة التي تذهب بالزبد جفاء وتترك ما ينفع الناس ماكثاً في الأرض، تلك هي القيم التي يجب أن نحرص عليها، ونغذي بها أوردة وشرايين أبنائنا، لتكون ذخراً لثقافة المستقبل.
ثقافة المحبة والتعايش السلمي مع الغير، يكتسبها الأبناء منذ الصغر، وكذلك سلوكيات العنف والعدوانية والأناينة والخيانة والغدر والحقد وغيرها من السلوكيات السلبية تترعرع مع النشء منذ نعومة أظافرهم، وكلا النوعية من السلوكيات يشكل خميرة ثقافة المجتمع في المستقبل، فلنختر أي الطريقين أفضل، ونصب جهدنا في تكريسه بسلوكيات الأبناء حتى يشبوا عليه ويصبح الطبع الغالب لرجال الغد.
لا شك أن الجميع يرفضون القيم السيئة من حقد وكراهية وتعصب، وينددون بمن يسلك ذلك المسلك، ولكن حتى يترجم الناس تلك المشاعر الرافضة للقيم السلبية، عليهم أن يحرصوا على تجنيب أبنائهم مزالق الوقوع فيها. ويصعب تكريس هذه القيم بالتلقين أو الأوامر والمناشدة، بل يمكن أن تكون أكثر رسوخاً بالممارسة العملية للفضائل والقيم الإيجابية والحذر من الوقوع في انتهاج السلوكيات المرفوضة، فالأطفال لا يرون خطأً أو عيباً فيما يشاهدون الآباء والأمهات يمارسونه، فهم قدوتهم وأسوتهم في كل شيء. لذا من السهل ترسيخ قيم جمال الأخلاق، وجميل الطباع لديهم، من خلال معاملتهم بها. وكذلك يمكن أن يبني الآباء نفوساً طيبة من خلال تعويد النشء على التسامح وحب الخير، وحسن الظن، والإيثار وعدم حب النفس أو تمجيد الذات، ومحاربة سوء الظن، والغيبة والنميمة، لأن من شب على شيء شاب عليه. وسينعكس ذلك على سلوك المجتمع الذي سيكون صغار اليوم هم نواته في المستقبل.
بأيدينا إذن أن نزرع القيم النبيلة لكي يحصد المجتمع في المستقبل سلوكاً رائعاً وتماسكاً في جسده وروحه ومكوناته الأساسية. نستطيع غرس قيم السلام وثقافة المحبة والانسجام، والتوازن في العلاقات، من خلال الالتزام بها في سلوكنا، ومخاطبة الصغار بذات اللغة وبالنهج نفسه، حتى يكون مجتمع الغد صالحاً نظيفاً خالياً من الشوائب التي تعكر صفوه، وتفسد روعته، وتؤجج اللواعج السلبية في نفوس أفراده. فأبناؤكم هم بذرة الصلاح إن أحسنتم غرسها ورعايتها بالسقيا والحفاظ عليها من الآفات والمهددات.
قبل الوداع
نظرة فاحصة ودقيقة للظواهر السلبية التي تنتشر اليوم في واقعنا، ويكون الشباب طرفاً فيها، سواء التي يتناولها الإعلام، أو يتداولها الناس في حديث المجالس تجعلنا ندرك كم هو مهم أن نبادر بصناعة ثقافة المستقبل، بالكيفية التي نتمناها، ونؤسس سلوكيات المجتمع القادم بالصورة التي لا تجلب لنا اللعنة، وأن نبذر ما ينبت صلاحاً وفلاحاً وقرة للأعين.