سنكون ساذجين حد الحماقة إذا تصورنا ولو للحظة واحدة أن الحياة خير كلها، وسنكون غارقين في السذاجة من رؤوسنا إلى أخمص أقدامنا إذا حملنا الناس على رأي واحد أو فكر واحد أو حزب واحد، قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}..................
...... إن دين الإسلامجاء بثوابت لا تقبل القسمة على اثنين وجاء بمتغيرات يقدح فيها الناس عقولهم ونقولهم ويتفقون أو يختلفون كل هذا لايهم مادام القصد رضا الله عز وجل لا طلب الفتنة والصيد في الماء العكر. في العلم التجريبي الذي يغلب عليه لغة الأرقام والمعادلات يتصور الكثير أن الاجتهاد فيه أمر محال والحسم فيه أمر محقق بينما الحقيقة خلاف ذلك فهناك مئات بل آلاف النظريات العلمية التي يسبح فيها الفكر البشري في فضاء المعرفة يجمعهم شغف الوصول إلى الحقيقة مهما كلفهم ذلك من ثمن، غير أن القرآن الكريم ماكان ولم يكن ولن يكون كتاب معادلات رياضية أو خوارق علمية بل هو كتاب هداية للناس يبشر وينذر ويبين ويوجز ويقص ويشرع وهكذا.
الإسلام جاء ناسخا لكل الشرائع التي سبقته مع الإبقاء على ثابت واحد لم ينسخ وهو عبادة الله وحده لا شريك له أي توحيد الخالق الذي أجمعت كل الشرائع عليه ومن أجله بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين. كثيرا ما نختلف وقليلا ما نتفق، قليلا ما نتحاور وكثيرا ما نتهم، قليلا ما تتسع صدورنا للرأي الآخر وكثيرا مانفرض آراءنا على الآخر، إن الحراك الفكري في مجتمع ما هو دليل حيوية وحياة لذاك المجتمع وقد لعبت وسائل الإعلام من مجلات وصحف ووسائل إعلام مشاهدة ومسموعة في العصر الحديث على ازدياد الحراك الفكري وقولبته في صور ومضامين مختلفة وتغيير لغة الخطاب الديني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
التلاقح الفكري في دول العالم الثالث نادر الحدوث قياسا بالغرب الذي تتسع مدارسه وانفتاحه على تقبل الرأي الآخر دون تشنج أو صراخ. ما أجمل التناغم بين قوة العبارة وقوة الحجة. بعضهم يصرخ بأعلى صوته لكن حجته ضعيفة واهية فلا تجد من يرعه سمعا أو يلتفت إلى مناكفاته وصراخه. وبعضهم الآخر يتكلم بنبرة هادئة لكن حججه دامغة تضطرب لو قدر لها أن تضطرب وتصرخ لو قدر لها أن تصرخ.
إن المعضلة الأساسية في حراكنا الفكري محدوديته لا من حيث الكم ولكن من حيث الكيف. كيف يكون ذلك؟ لو طرح إنسان فكرة ما أو أبدى رأيه في قضية ما لتوالت الردود المتشنجة التي تحاكم الرجل قبل فكره مع افتراض العكس مما يؤزم العلاقة بين الأفراد ويحد من الحراك الفكري أو يقوده إلى مستويات متدنية يغلب عليها التسرع واللامنهجية في الطرح. ويؤسس لأزمة فكرية ينبثق عنها اختلال في النسق الفكري وفي أدوات ومفردات الخطاب. إن محاورة الفكرة يجب أن تتم بمعزل عن كاتب الفكرة، ومتى ما تحقق ذلك ننتقل إلى شرط آخر لابد من مراعاته وهو تفكيك الفكرة أو مفردات الفكرة يتبع ذلك مناقشة كل الاحتمالات التي ترمز لها الفكرة في حوار هادئ رصين ليطرح أنموذجا راقيا وحوارا عاقلا ونسيجا مترابطا من الأفكار يغذي العقل ويحترم الأفهام، كل ذلك بعيدا عن الثوابت التي لا تقبل المساس أو المساومة أو استعراض بنات الأفكار.
إن الطريقة التقليدية في الحوار ممن يحملون الفكر الليبرالي أو الفكر الإسلامي لها انعكاساتها السلبية على قراءة الأحداث قراءة متأنية منضبطة. ولو عملنا إحصائية لنماذج، دون أن نسمي رموزها، لتلك المناكفات على أوراق الصحف وفي قنوات الفضاء لوجدنا عبارات السب والاتهام تأخذ حيزا كبيرا ولا تجد الفكرة لها متسعا كافيا.
فالذي يطرح فكرا يتعرض فيه للثوابت فقد أخل بمنهجية الحوار وارتقى مرتقى صعبا ووضع نفسه في خانة الاتهام. وأهدر وقت المتلقي فيما لا طائل من الخوض فيه لكن لو ارتقى بطرحه في أمور تقبل الاجتهاد لكان ذلك أجدى وأولى، وللطرف الآخر لو التزم بمنهجية الحوار في لغة الخطاب بعيدا عن التشنجات والاتهامات والألفاظ الجارحة لكان ذلك أولى وأكمل.
هناك كاتب يراعي جمهوره وينفعل لانفعالاتهم ويعتبر نفسه ممثلا لتيار مالا يتجاوز خطوطه الحمراء حتى لو لم يكن مقتنعا ببعضها وهذا بلا شك يضعف الحوار. إن الخطاب المتشدد والخطاب (المتعري) كلاهما قمة في التطرف. إن الإسلام حث على التفكر والمجادلة بالتي هي أحسن وأعمال العقل في المواضع التي يسوغ فيها إعماله. إننا في أمس الحاجة لخطاب رزين متعقل يراعي كل ما ذكرته من أمور وتتقلص فيه مساحات التصنيف والاتهام والافتراء والفهم المعلب. لسنا بمعزل عن العالم فنحن جزء منه، ويجب أن نمارس حراكا فكريا راقيا مهما اختلفت الأفكار في جو أبعد ما يكون عن المشاحنات والاتهامات والتراكمات المعرفية عن الأشخاص وفي التزام بالثوابت التي لا تقبل الجدل أو المقايضة.
أزمتنا أننا في قلب الأزمة، في قلب الحدث، نعتبر أنفسنا أوصياء على عقول البشر وكأنهم قطيع من السذج الذين لا يفرقون بين الألف والياء. مشكلة الخطاب الثقافي بكل أطيافه أنه لا يحترم عقل المتلقي فإما يكون وصيا عليه أو مستهترا به. إن الفكر المؤدلج لاينتج فكرا ولا أدل على ذلك من سطوة الكنيسة في القرون الوسطى على الحراك الفكري وتسلطها ومحاربتها له واتهامها لرموزه والتضييق عليهم حد القتل. إن العقل البشري أكبر من أن تسعه منظومة ضيقة من فكر مسيس أو نظرة قاصرة أو طقوس بلهاء أو انحراف عقدي أو أخلاقي.
إن الإسلام جاء لتحرير العقل البشري من ثقافة عبادة الأصنام أو الكواكب أو غيرها من الأجرام السماوية إلى عبادة خالق هذا الكون ومدبره وموجده بطريقة مباشرة لا تستدعي تقديم الولاءات والالتماسات والوساطات والقرابين لطلب الحاجات منه بل يكفيك أن تتوجه بقلب خاشع ودمعة حاضرة وتسأل حاجتك. إن رضوخ العقل البشري لخزعبلات وخرافات ما أنزل الله بها من سلطان هي انتكاس وارتكاس للفطرة السليمة والعقل المبصر المفكر. إن عبادة الله عز وجل هي ارتقاء بالعقل البشري إلى مدارج الكمال وهي تكريم لهذا المخلوق وهي صيانة للفطرة السوية من العبث.
انتقل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى بعد أن أكمل الله به الدين، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، وتوالت القرون من بعده وتعددت المدارس الفقهية ودخلت ثقافات أخرى من غير بلاد المسلمين ودخلت الفلسفة أو علم الكلام فكان حراكا فكريا مذهلا أفرز لنا أمهات الكتب في الرد على الفرق الضالة وفي المسائل الشائكة وفي ملكوت الله عز وجل، وهذا بالضبط ما نريده ونرنو إليه، نريد حوارا راقيا لا يحتاج فيه صاحب الحق إلى الصراخ بل إلى النبرة الهادئة والكلمة المؤثرة واللمسة الحانية لأن واثق الخطوة يمشي ملكا، وإلى الكلمة الصادقة وعدم اتهام النيات وتمني الخير للناس كلهم مقتديا بذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يفرح بإسلام الكافر ويشفق على العاصي.
نريد حراكا فكريا يرتقي بنا إلى مصاف الأمم، ويحرك ويستثير كوامن الفكر والإبداع في عقولنا التي ران عليها غبار الخمول والاسترخاء. إن من يعكر صفو مائنا أو يعتدي على ثوابت عقيدتنا أو ينال من لحمة أمتنا هو مسخ يغرد خارج سربه لكن علينا أن نتصدى لهذا الطائر الضال بأن ندله عبر بوصلة (التي هي أحسن) إلى جادة الصواب مشفقين عليه من ضلالاته راجين له الانضمام إلى السرب كي لا تكتسحه رياح الفجور والضلال.
akheliwi@kacst.edu.sa