كان مما أشير إليه في الحلقة السابقة أعداد من نالوا جائزة الملك فيصل العالمية - طوال ثلاثة عقود من مسيرتها - في فروعها الخمسة: خدمة الإسلام، والدراسات الإسلامية، واللغة العربية والأدب، والطب، والعلوم، وأعداد من كانت لها الريادة في تقديرهم.
وبخاصة في مجالي الطب والعلوم، على غيرها من الجوائز العالمية الكبرى، مثل جائزة نوبل، ومما أشير إليه في تلك الحلقة، أيضاً، العالمات الرائدات اللواتي فزن بها في مجالاتها العلمية.
وفي الليلة قبل البارحة رفرفت أعلام السعادة بتسليم تلك الجائزة للفائزين بها هذا العام، جمعية خيرية مخلصة، دعوة وعملاً، وكوكبة من رواد فكر وعلم أضيفوا إلى روَّاد سبقوهم.
لقد منحت جائزة خدمة الإسلام - هذا العام - للجمعية الشرعية الرئيسية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمية في جمهورية مصر العربية، وقد أنشئت هذه الجمعية عام 1331هـ - 1912م على يد الشيخ محمود السبكي، وظلَّت تعمل - منذ إنشائها - على ترسيخ مفهوم الدعوة الخالصة إلى الله بعيداً عن المطامع السياسية، وسارت بخطى ثابتة نحو تحقيق أهدافها، فقاد كل نجاح حققته إلى نجاح آخر، ومما حققته أن أصبح لها الآن ما يقرب من 500 فرع في مصر، وأكثر من 50 معهداً لإعداد الدعاة والقراء، إضافة إلى إنشاء أكثر من 5000 مسجد، وأكثر من ألف مكتب لتحفيظ القرآن الكريم، ومن أبرز وجوه نشاطها نشر الوعي الإسلامي القائم على الكتاب والسنة، وتصحيح الفهم الخاطئ عن الإسلام، ومحاربة البدع والخرافات، والتصدي فكرياً للحملات المغرضة على الإسلام والمسلمين.
ومن أبرز ما حققته تلك الجمعية تكفُّلها برعاية أكثر من 500.000 طفل يتيم، معنوياً ومادياً، وتيسير متطلبات الزواج لأكثر من 40.000 فتاة يتيمة، والإسهام في توفير فرص عمل لأمهات الأيتام، إضافة إلى إنشاء أكثر من ألف فصل دراسي لمحو الأمية، وإنشاء مستشفيات تقدم خدماتها مجاناً أو بأسعار رمزية، وإسهامها في أعمال الإغاثة العالمية، وبخاصة للفلسطينيين.
أما جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية - وموضوعها هذا العام الدراسات التي تناولت فكر العمران البشري عند المسلمين - فقد فاز بها البروفيسور عبدالسلام الشدادي من المغرب، وتاريخه حافل بالعطاء الفكري، تأليفاً وترجمة وتحقيقاً، ولما له من عطاء دعته جامعات مرموقة أستاذاً زائراً فيها، وأصبح عضواً في جمعيات علمية وفكرية عديدة، داخل وطنه وخارجه. ولقد ركز أعماله الأكاديمية والبحثية على العلامة ابن خلدون، سيرة وفكراً.
فمن أعماله عن ذلك العلامة ترجمته من العربية إلى الفرنسية ما كتبه عنه تحت عنوان: ابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً، وابن خلدون من منظور جديد، وابن خلدون: حياته ونظريته للحضارة، وحداثة ابن خلدون: محاضرات وحوارات.
ولقد تمكن البروفيسور الشدادي - من خلال نشر أعماله بالعربية والفرنسية والإنجليزية - من مخاطبة قطاع عريض من المتخصصين عبر العالم، وأصبحت تلك الأعمال المتسمة بالدقة والعمق والتنوع مراجع مهمة للباحثين المهتمين بفكر العمران البشري عند علماء المسلمين.
وأما جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية والأدب فقد منحت للبروفيسور عبدالعزيز المانع، السعودي الجنسية، الحاصل على الدكتوراه من جامعة اكستر البريطانية عام 1396هـ - 1976م، وقد عمل - بعد نيله تلك الشهادة - في التدريس بجامعة أم القرى، ثم انتقل إلى جامعة الملك سعود، وإضافة إلى عمله في التدريس تولَّى مناصب علمية إدارية مهمة، وله نشاط مقَّدر في الحياة العلمية والثقافية في وطنه، المملكة العربية السعودية، وخارجها؛ عضواً في هيئات تحرير مجلات وجمعيات علمية وثقافية، ومشاركة في مؤتمرات وندوات أكاديمية، وله إنتاج علمي غزير، تحقيقاً ودراسات، على أن عشق التحقيق عشقاً عظيماً، نذر نفسه له، حتى أصبح علماً من أعلامه في الوطن العربي، ومما نتج عن عشقه ونذره تحقيقه لأكثر من خمسة عشر عملاً من المؤلفات التراثية الأدبية، شعراً ونثراً، ومما اعتنى به عناية كبيرة نشر ما لم ينشر من تراث يتعلق بأبي الطيب المتنبي من شروح وكتب نقد، إذ قضى في التعامل مع ذلك التراث أكثر من عشر سنوات.
ولقد فاز بجائزة الملك فيصل العالمية في مجال الطب البروفيسور رونالد ليفي، رئيس شعبة الأورام في جامعة ستانفورد، وتعد بحوثه من أهم الدراسات التي أثرت المعرفة بأورام الخلايا البائية وسماتها المناعية، وقد اكتشف - منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي - أن في الإمكان إنتاج أجسام مضادة وحيدة النسيلة قادرة على التعرُّف على الخلايا السرطانية دون غيرها من الخلايا، وبالتالي القضاء عليها، وتحوَّلت طريقته من مجرد فكرة إلى استحداث عقار يستخدم لعلاج نحو نصف مليون مريض سنوياً من المصابين بذلك النوع من السرطان، بل إنه ابتكر وسيلة تعتمد على إنتاج لقاحات خاصة بكل مريض لتحفيز جهازه المناعي على تدمير الخلايا السرطانية داخل جسمه، وقد نال تقديراً واسعاً في الأوساط العلمية، ولقِّب (بطل الأجسام المضادة) كما نال جوائز كبيرة، إضافة إلى زمالات وعضوية جمعيات رئيسة في مجال تخصصه، ودعي أستاذاً زائراً في جامعات راقية عديدة.
أما جائزة الملك فيصل العالمية في العلوم فقد فاز بها عالمان مشهوران: البروفيسور ريتشارد فريند من بريطانيا، والبروفيسور عليفتش سنييف المولود في طشقند، الروسي الجنسية، والبروفيسور فريند رئيس مجلس العلوم الفيزيائية، ومدير مختبر كافندش، في جامعة كيمبرج البريطانية المشهورة، وكان لبحوثه الرائدة في فيزياء أشباه الموصلات وهندسة الأجهزة المصنعة من المواد الكربونية أثر عظيم في علم الفيزياء والعلوم المرتبطة به، وقد طوَّرت دراساته تقنيات مبتكرة جديدة مختلفة اختلافاً جذرياً عن التقانات التقليدية، مما مهَّد لتطوير تطبيقات عديدة للأجهزة المصنعة من تلك المواد بما في ذلك الأجهزة الكهروضوئية والدوائر الترانزنسيورية. ولما حققه من ريادة احتفت به الأوساط العلمية في العالم، ومنحته العديد من الجوائز والميداليات، واختير زميلاً وعضواً في جمعيات علمية راقية.
أما البروفيسور راشد سنييف فواحد من أبرز علماء الفيزياء الكونية وفيزياء الفلك في العالم، وكان لإنجازاته الرائدة أثر كبير في تطوير هذين المجالين، وكان رئيساً لمختبر فيزياء الفلك النظرية بالأكاديمية الروسية للعلوم ثمان سنوات، وأستاذ كرسي في معهد الفيزياء والتقنية في جامعة موسكو خمسة وعشرين عاما، وهو حالياً مدير معهد ماكس بلانك لفيزياء الفلك في ألمانيا، وباحث رئيس في معهد أبحاث الفضاء في موسكو، وقد حقق إنجازات باهرة في فيزياء الفلك والفيزياء الكونية، ومن ابرز تلك الإنجازات الفرضية المعروفة باسم (تأثير سنييف - زلدوفيتش)، وهي فرضية أصبحت تستخدم لقياس ثابت هوبل واستكشاف بنية الكون.
ومن أبرز إنجازاته، أيضا تطويره مع البروفيسور شاكورا نموذجاً لتراكم المادة المتحركة لولبياً حول الثقوب السوداء، وقد أصبح ذلك النموذج المسمَّى فرص شاكورا - سنييف القياسي أساساً لدراسة كتلة الثقوب السوداء، ولقد قام بدور مركزي في تطوير برنامج الفضاء الروسي وبرنامج الفضاء الأوروبي، ويسهم حالياً في تطوير قمر صناعي للدراسات الفلكية بوساطة الأشعة السينية، وفي إجراء بعض التجارب المتعلقة بالتحضير لبعثة بلانك الفضائية.
ولما حقَّقه البروفيسور سنييف من إنجازات رائدة باهرة نال تقدير العديد من الجهات العلمية المرموقة، كما نال عضوية جمعيات ذات مكانة عالمية سامية، ودعته جامعات عديدة أستاذاً زائراً أو محاضراً، ومنح جوائز عالمية، رفيعة بينها جائزة كرافورد من الأكاديمية السويدية، وجائزة هاينمان في فيزياء الفلك من الجمعية الأمريكية للفيزياء، والميدالية الذهبية من الجمعية الملكية البريطانية للفلكيين، وأطلق اسمه على أحد الكواكب الصغرى.