المرأة السعودية المعاصرة لم تعد منزوية في البيوت الطينية تصنع الرجال الذين كتبوا ملحمة تاريخية اسمها المملكة العربية السعودية، لأنها تحولت من المساندة الإنسانية للرجل إلى المشاركة الحضارية للأمة في كل مجالات النهضة وميادين التنمية، فبرزت في العلم، وتخصصت في الطب،
ونجحت في التجارة، وظهرت في الإعلام، وتفوقت في الثقافة والأدب، وتقلدت أرفع المناصب الإدارية، ولم تترك مجالاً من المجالات الحضارية إلا دخلته وأبدعت، ولا ميداناً من الميادين التنموية إلا كان لها بصمة العطاء الإنساني.
خلال هذه المسيرة العظيمة للمرأة السعودية التي تداخلات معها تحولات اجتماعية كبيرة في المجتمع السعودي، كان لابد لهذه المرأة التي تمثل المرأة المسلمة أنموذجاً إنسانياً راقياً، أن تواجه تيارات تغريبية وثقافات متعددة وأفكاراً عصرية، منها ما يمكن أن يُسهم في رقيها الحضاري وتمدن حياتها بكل أشكالها دون أن يتعارض مع مرجعيتها الدينية وخصوصيتها السعودية، ومنها ما يمكن أن يعمل على طمس هويتها الإسلامية ومسخ فطرتها السوية، لذا من الطبيعي أن تزداد وتيرة تلك المواجهة مع ثورة المعلومات المتدفقة وتقنية الاتصالات المفتوحة، فلقد أصبحنا مكشوفين للعالم أجمع، كما غدا في متناول أيدينا بالصوت والصورة، خاصة ً في ظل الحديث الغربي (المضلل) عن المرأة عبر وسائل إعلامه، وفي مؤسساته السياسية والثقافية وهيئاته الأهلية، من خلال الاستغلال الواضح والترويج الفاضح لأكذوبة إعطائها حقوقها المسلوبة، التي وجدت صداها لدى البعض في مجتمعنا السعودي.
غير أن مواجهة المرأة السعودية لتلك التيارات التغريبية والثقافات المتنوعة انتهت إلى ثلاثة أنماط من (الثقافة المريضة)، نمط أجنبي يتجلى في (ثقافة متعالية) تتعاطى مع المرأة السعودية وفق القيم الغربية التي ترتكز بالدرجة الأولى على الفلسفة العلمانية للحياة، فالغرب بشقيه (الأميركي والأوروبي) لازال يعتقد أننا أمة بلا قيم حضارية ما دام الدين محور حياتنا، وما دامت المرأة لدينا متمسكة بهويتها الدينية، ومستقلة بشخصيتها الحضارية، ومستقيمة في ممارساتها الأخلاقية، هذه الثقافة جسدتها المذيعة الأميركية أوبرا وينفري التي قالت في إحدى حلقات برنامجها الشهير باسمها : إن أسوأ وضع في العالم هو الذي تعيشه المرأة السعودية فليس لها حقوق، وأنها تحمد الرب لأنها تعيش في أميركا، على خلفية حوار أجرته مع مذيعة سعودية تعرضت للضرب على يد زوجها، لكن المضحك وشر البلية ما يضحك أن هذه المذيعة الأميركية السوداء قد تعرضت خلال حياتها لعنف أسري متكرر من والدها، فضلا ً عن تعرضها للتحرش الجنسي من قبل أقرباء لها.
أيضاً هناك نمط من الثقافة المريضة يتمثل في (ثقافة عربية قاصرة) مرتهنة للماضي الذي لا يتجاوز فكرة (وضحى وبن عجلان)، ثقافة لا زالت تعتقد أن المرأة السعودية محشورة بواقعها مقهورة بحقوقها، لدرجة أن أحد المثقفين العرب الذين يُفترض فيهم الوعي، قد استغرب من اسم إحدى الشاعرات السعوديات في أمسية شعرية في ديوان الكوفة بلندن عام 2006م، لأنه اسم (ألماني)، معتقداً أن أسماء السعوديات لا تخرج عن البيئة البدوية وهي البيئة التي تعني التخلف في العقلية العربية التقدمية، وهذا يفسر الصدمة التي تنتاب بعض العرب عندما يعرف عن مثقفة عربية بارزة أنها سعودية. مع ذلك يمكن التماس العذر لهذا النمط من الثقافة المريضة بحكم الجهل المعرفي أو العيش في أسر الماضي العروبي الذي تجاوزه الزمن.
أما النمط الثالث فهو (ثقافة محلية) تمارس خلط (الحقوق الشرعية) للمرأة ب(حاجاتها الاجتماعية) أو (كمالياتها الحياتية)، فلا تهم قضايا المرأة المطلقة أو الأرملة (المتحجرة) في أروقة المحاكم أو لدى جمعيات حقوق الإنسان، ولا تهم مسألة محو الأمية عنها، ولا تهم معالجة فقرها أو البحث عن طرق لكسب عيشها، المهم لدى أصحاب تلك (الثقافة) أن تقود السيارة حتى يمنحنا العالم شهادة (الحضارة المزيفة)، وأن تخالط الرجال كي تكون (شريكة له في المصير)، وأن تأخذ مكان الرجل تحقيقاً لمبدأ (المساواة)، وأن تسافر وحدها إلى أقصى الدنيا كي يقال إن (المرأة السعودية حققت العالمية)، لذلك لم نسمع من أصحاب هذه الثقافة إشادة في باحثة سعودية فاجأت العالم بابتكار طبي مميز، أو نقرأ ثناءً لأستاذة سعودية وقفت بحجابها على منصة فرنسية تستلم جائزتها في الإبداع العلمي، وغيرهن من نماذجنا النسوية الراقية، لأنهم أساساً مشغولون بالتصفيق الإعلامي للمرأة التي طارت والأخرى التي زاحمت الرجال لإنتاج فيلم باهت. إني لا أرفض عمل المرأة بضوابطه الشرعية ومجالاته المطلوبة، كما لا أعارض الفن الجاد، ولكن (فقه الواقع) يكون بتطبيق الأولويات، مع مراعاة عدم الخلط بين حقوق المرأة المعتبرة شرعاً وبين حاجاتها التي تتحقق وفق متطلبات مجتمعها خلال حركة التطور الاجتماعي.
Kanaan999@hotmail.com