حل صيف ذلك العام في إحدى القرى النائية، وللصيف لهيبه فتسخن الموجودات من فاكهة وخضروات وتفسد اللحوم، فأحسَّ الابن وهو من سكان المدن بواجب وعاطفة تجاه أبناء قريته وبالذات والدته المسنة التي أصرَّت ألا تغادر القرية،
فقرر أن يفعل شيئاً يعين به والدته من حرارة الصيف.
جهَّز مروحة متنقلة وثلاجة متوسطة الحجم وأرسل بهما لوالدته، وبعد فترة قصيرة أرسل مكتوباً مع أحد سكان القرية لها، يسألها إن كانت راضية عمّا أرسل به لها، فردت والدته بكل الرضا، وأكدت له أن أمورها ممتازة، وكما هي عادته بأن يزورها بين فترة وأخرى، فسافر ليراها ويطمئن عليها.
ووصل إلى القرية مستعجلاً لقاء والدته وحين اللقاء وما أبداه كل منهما من عواطف جيَّاشة سأل الابن والدته عن مكان الثلاجة ومدى فاعليتها وكذلك المروحة، ليكتشف أن ما أرسله ما زال كما هو في صناديقه المغلقة، فسأل والدته بأدب جم عن ذلك، وسمع منها ما لم يكن يتوقعه حيث قالت: (أردنا استخدامهما.. لكنهما لا يعملان لعطل فيما أظن).
فأحس بشيء من الضيق إن كان البائع قد خذله.. وقال لوالدته: (لماذا لم تخبريني لاستبدالهما؟).. فردت والدته بشيء من الحنان أنها لم تفعل حرصاً على عدم إحراجه أو إزعاجه.
فنهض للمعاينة والتأكد فلم يجد إشكالاً في كليهما، فوالدته بعد أن أخرجتهما من الصناديق لم توصلهما بمصدر الطاقة ظناً منها أنهما يعملان تلقائياً، دُهش الابن من الأمر، وكذلك من نفسه، فخاطب والدته شارحاً لها لزوم إيصالهما بالتيار، فأدرك الابن لحظتها أن للأمر إشارات لا بد من اعتبارها.
- ألا يكتفي بإرسالهما وأن يُقدِّر ما تجهله والدته، فيستعين بمن يجهزهما للعمل.. فلقد كان باراً من خلال ما صنع إلا أن ما أراده لوالدته من راحة بال لم يتحقق، فتمام الفائدة من واقع المعرفة لمن سيستفيد، وأن أي عمل يختل ويفقد قيمته حين تفسده ثغرة، وأن النية الطيبة تتحقق مفاعيلها بتكامل العمل قدر المستطاع.. وبالنسبة لما جهلته والدته فإنه يؤكد ظروف عصرها، وأن الإنسان لا يحقق المنفعة بالامتلاك، بل بالقدرة على تفعيل ما امتلك، فأدى جهل الوالدة إلى أن تحبط الوسيلة الغاية، حيث إنها بالمعرفة تتحقق، وهذا سبب لما اعتبرت أنه عطل، فالإمكان رهن الظرف في زمان معين، فما يكتسب من خلاله رهن بظروفه ومعطياته، فالانتصار على الشيء يترتب على ما نجهل أو نعلم عنه، كما أن إدراك أن الواجب، متشابك مع المسؤولية نحوه، فالمقياس بجانب أدائه يتحقق بدقة المسؤولية نحو الغاية، فقد نحسبه واجباً فنؤديه ونغفل عن تفاصيل إتمام هذا الواجب، وبالفطنة يتحقق تمامه، وعموماً لا تعلُّم بلا جهل، ولا جهل مع محاولة التعلُّم.
من أدب الابن مع والدته أن تحاشى التوسع في أسباب دهشته أمامها.. أو أن يكون معلماً لها، فالواجب مع الوالدين في سنهما هذه، مراعاة أن الزمن توقف بهما عند مرحلة يجب معها اختصار الحوار، وتجنُّب الجدل، وأن نبتعد عن إجهادهما بما هو غير لازم، فما لا يستطيعان عمله نعمله نحن عنهما، وأن ما ندركه من معارف لا يساوي خبرتهما أو شيئاً من تجاربهما.
ثم أخذ به خاطر ففكر بصبر أبناء قريته على معايشة الظروف الصعبة، حيث تشح الإمكانات.. ومع ذلك نفوسهم راضية ومستقرة وسعداء بحياتهم، وما يتخللها من أمسيات مرحة غنية بقيم الدين والدنيا، ففسر هذا بأن من يستغني عن شيء تتوارى الهموم بالشيء نفسه.. ومن احتاج أو استغنى فهو حاكم لنفسه لتوجه المعاني كل الرغبات فتزيد قدرة التكيف والتآلف مع الموجودات، فالإنسان بين الضرورة والترف في مأمن من الانزلاق حين يتعود على أن الشيء بالشيء الآخر والأيسر له عوض، وأن ما هو ترف اليوم يتحول مع الوقت إلى ضرورة، والتملُّك للشيء رهن باستخدامه.. فمن الأشياء ما يستخدمنا فنشقى بتملُّكه، وأن نسأل النفس عن القدرة في الحفاظ على ما نملك وصيانة ما سنملكه، وأن نزهد أو نتوسع بمقدار من مقادير القدرة والحاجة، وإدراك مدى تأثيرها وترسُّب بعض من دلالاتها في نمط السلوك لدى أبناء الجيل القادم، ثم سأل نفسه: هل من الواجب محاولة تأمين بعض مما يحتاجه أبناء قريته؟ فردَّ على نفسه بأن ما هو واجب أوجب المسؤولية نحوه، وهي قدرات وإرادة، لكن الواجب بدافع تلقائي يسيرٌ أداؤه، وإن تعسَّر نحاول بالوعي تفهُّم أهميته بالأثر والنتائج.
ومع الحوار الذاتي نُلقي بالسؤال عن الأثر النفسي لدينا حين يؤدي الآخر واجباً معيَّناً نحونا، فنحن والآخرون في دائرة الواجب ونتائجه، ونتأثر بالعطاء ونميزه عن كل تقصير، والمبرر رصيد القيم وجهدنا في الحفاظ عليها ومدى الخير فيها، ولا يجوز أن نتحرك في الدنيا أو تحرِّكنا كما تتحرك عجلات العربة، فالأساس يستمد من قائد العربة، ولُحمة المجتمع تتآكل لفعل نفعله أو لا نفعله، فبالوعي نحدد الغثَّ من السمين، فالعربة تسير في كل الاتجاهات، وخيرها ما هو عملي ونافع.
إن الحرص على المعرفة والعلم شاهد على حسن الأداء في ما يقابلنا من أمور الحياة، وهنا عقد العزم على توفير بعض مما يحتاجه أبناء قريته بعد أن فكَّر واستنتج ما استنتج.