لقد درج الباحثون والكُتّاب حين الحديث عن الجامعات إلى تعداد وظائفها ووظائف الأساتذة بها وهي التدريس والبحث العلمي وخدمة المجتمع. وفي هذا المقال سوف أتحدث بشكل مغاير نسبياً، حيث أركز على أساتذة الجامعات وكيفية استثمار طاقاتهم لتطوير الجامعات وتنمية الوطن.
لقد أصبح لدينا في المملكة العربية السعودية حوالي خمس وعشرين جامعة ما بين حكومية وخاصة، يقارب عدد طلابها المليون وعدد أساتذتها الأربعين ألفاً (ما بين معيد ومحاضر وأستاذ ومساعد وأستاذ مشارك وأستاذ)، وهو عدد كبير إلى حد ما، لديه الإمكانات والطاقة التي ينبغي استثمارها لصالح الجامعات وكذلك لخدمة التنمية وخدمة الوطن وفي كافة المجالات الاستشارية والتقنية والصحية والتربوية والاجتماعية والهندسية والزراعية والأمنية وغيرها.إنه من المناسب البدء بتعريف أستاذ الجامعة من هو؟ وكيف يتم إعداده؟ إن أستاذ الجامعة هو شخص مؤهل يحمل أعلى الدرجات العلمية العليا والتي تسمى (بالدكتوراه في الفلسفة أو دكتوراه في التربية Ph.D or ED. D ) حيث يكون مؤهلاً وناضجاً نفسياً وجسمياً وأخلاقياً للعمل في الجامعة، ويسبق تلك الأهلية مرحلة اختيار دقيق ومميز وهي مرحلة اختيار هذا الشخص (الذي يبدأ بما يسمى معيداً) وهذه المرحلة هي من أهم وأخطر مراحل تكوين وتشكيل أستاذ الجامعة، وهي تشبه بالضبط وإلى حد كبير اختيار الزوجين لبعضهما، اختياراً مناسباً صائباً ويكون الهدف الأبعد هو الجنين والمولود الذي يكون صالحاً وتقر به عين والديه. فكلما كانت لجان المعيدين والمحاضرين لجاناً مختارة بعناية وأمينة ومؤهلة وتعي رسالة الجامعة كلما كانت نواتجها اختيارات موفقة ومناسبة لأساتذة الجامعة. وليس الحديث هنا عن كيفية تأهيل واختيار هذه اللجان والمعايير التي يجب أن نتبعها في اختيار المعيدين والمحاضرين، فهناك لوائح وتعليمات وأعراف تتبعها الجامعات وفقاً للوائح مجلس التعليم العالي ولتفسيرات اللوائح التنفيذية للجامعات، وفي الغالب الأعم أن الجامعات تتبعها في حالة اختياراتها، ولكن اللوائح وحدها لا تكفي، فإن العنصر البشري المنفذ لها وكذلك من يتابع تنفيذها ويشرف عليها هو الأهم.
إن مرحلة اختيار Selection المعيد أو المحاضر أو حتى الأستاذ المناسبة في الجامعات وما تتضمنه من اختيار وغربلة وجودة لا يكفي لأن الاستفادة من هذه الطاقة المؤهلة والكامنة لابد من مرحلة إعداد وتأهيل وتدريب في أثناء التحضير للدرجات العليا من دكتوراه وأستاذية تشمل ضمن ما تشمل الدورات التدريبية والمحاضرات العلمية في اللغة والحاسب والعلاقات الإنسانية والأخلاق الإسلامية الفاضلة، كذلك التدريب على المهارات الخاصة مثل الإعداد للتدريس وإجراء البحوث، وكذلك تقويم الطلاب وغيرها من المهارات. وكذلك تشمل الاختيار الأمثل والمناسب للجامعات التي يدرس بها المعيد لمرحلة الماجستير والدكتوراه، وبعد الحصول على الدرجة يتعين الحاصل على الدكتوراه عضواً في الجامعة، ويكون مؤهلاً ومزوداً بمؤهلات وطاقات عالية.
فما هي الطاقات والقدرات التي يحملها الأستاذ الجامعي؟
إن أهم طاقة لدى الأستاذ الجامعي هي قدرته العقلية وخبرته الأكاديمية في مجال تخصصه وفي المجال الثقافي العام. إنه أساس ونواة تقدم وتغيير وتطوير وبخاصة إذا تزامن الخلق الرفيع والقدوة الحسنة مع طاقات وقدرات هذا الأستاذ الذي يحظى بتراكم علمي ومعرفي وقدرة ذكائية لا تتوفر إلا للصفوة أمثاله في المجال الذي تخصص فيه. ولنا أن نتوقف عند التفكير عند الأستاذ المتخصص في الفقه أو في الحديث أو في النحو أو في التربية أو في الاجتماع أو في علم النفس أو الاقتصاد أو السياسة أو التاريخ أو الهندسة أو الطب أو الزراعة وغيرها، كيف إن هذا المتخصص يعلم ويدرك الكثير والكثير من دراسته وتعلمه وباحتكاكه بطلابه وبزملائه وبأساتذته في قاعات الدرس ومجالس العلم والمكتبة وبعطائه لطلابه وتحضيره لمحاضراته وإعداده لأوراق العمل وحضوره الندوات والمؤتمرات وإجرائه التجارب وبنائه وتطبيقه للنظريات والأفكار البناءة والأصيلة، وفي كثير من الأحيان يتمكن من اكتشاف علاجات معينة أو اختراعات لحل مسائل في الرياضيات أو في الفيزياء أو في الكيمياء. ولنا في الأستاذ الجامعي المتميز أحمد زويل الذي توصل في أبحاثه ومعامله إلى ما سمي (بالفيمتو ثانية) وغير ذلك من الاكتشافات والاختراعات التي بالمئات بل بالآلاف في شتى المجالات والميادين، وكلها من أفكار أساتذة ومفكري الجامعات خير أمثلة. وعلى وجه التحديد، فإن أغلب الجوائز العالمية مثل نوبل ومثيلاتها في معظم المجالات هي حكر لأساتذة جامعيين.
بل إن العديد من المشروعات الصناعية والتجارية في الميادين العسكرية والسلمية هي أفكار ومشروعات مشتركة يهم أساتذة الجامعات الذين يقومون بدور رئيس فيها بالتعاون والتعاقد مع شركات ومؤسسات قطاع خاص وحكومي.
إن ما ينتج ويؤلف من كتب وروايات وقصص ومسرحيات محلية وعالمية هي في الغالب الأعم من تأليف أساتذة جامعات. إذن فأستاذ الجامعة لديه العديد من المواهب والطاقات والإمكانيات، فهو ينظر ويجرب ويطبق ويقود ويربي. وما دامت هذه الخصائص تتوفر في أستاذ الجامعة بحكم تأهيله ومكانته ووظيفته ومسئوليته، فما هي المجالات والميادين للاستفادة من طاقة أستاذ الجامعة في خدمة العلم والجامعة وتنمية الوطن؟
إن مجالات وميادين الاستثمار الحقيقي لأستاذ الجامعة لا تعد ولكنني أستطيع تصنيفها فيما يلي:-
1- في مجال التدريس الجامعي: حيث هذه الرسالة والوظيفة الأساسية لأستاذ الجامعة وهي تعليم الشباب وصقل مواهبهم ورعاية المبدعين منهم وحماية فكرهم من خلال اللقاءات اليومية أو الأسبوعية في المحاضرات أو المعامل ومن خلال الساعات المكتبية أو المناقشات وكذلك الندوات داخل الأقسام أو الكليات، فهو يكتب ويشرح لهم من خلال السبورة أو اللوحات الإلكترونية ويعلق على أبحاثهم ومداخلاتهم وواجباتهم ويتفاعل معهم ويرشدهم ويعلمهم ويرعاهم ويقودهم ويغير اتجاهاتهم ويؤثر في عقولهم ويؤثر في شخصياتهم ويوجههم وهم يقتدون به ويتعلمون منه ويتأثرون به. وهذه الفرص التي تتاح لأستاذ الجامعة في تعامله مع الشباب وهم في سن النضج وهم في مرحل الجامعة وما بعدها أي ما بين سن الـ 17 - 25 وأكثر (بالنسبة لطلبة الدراسات العليا) لا تتاح إلا للأستاذ الجامعي، فهو في تعامله معهم يكتسب الطلاب من العلم والمهارات المختلفة وبخاصة طلاب التخصصات ذات الجوانب التطبيقية والميدانية والهندسية والطبية، ويتأثرون كذلك في نمط شخصياتهم بأساتذتهم الذين يعتبرونهم قدوة لهم في أسلوب تعاملهم وأدائهم، فكلما كانت شخصيات المعلمين مثالية ونموذجية من حيث العلم والاتجاهات والسلوك والخلق كلما كانوا أكثر تأثيراً على طلابهم من الناحية الإيجابية، أما إذا كان خلاف ذلك - وهذه الحالات نادرة- كلما كان ذلك مؤثراً سلبياً على الطلاب وبالتالي مخرجات التعليم الجامعي.
2- في مجال البحث العلمي: إن أساتذة الجامعات وهم يؤدون وظيفتهم الثانية في الجامعة وهي البحث العلمي سواء كان ذلك لأغراض تدريب الطلاب على القيام بها أو بعقود مع الجامعة أو خارجها إنما يكسبون الطلاب أصول ومبادئ ومهارات إجراء البحوث، ويبثون قيم روح البحث العلمي وأهميته للفرد وللمجتمع والحياة بل ومعرفة فوائد البحوث العلمية في المشاركة المجتمعية واختبار النظريات العلمية.
إن الطلاب وبخاصة طلاب الدراسات العليا (ماجستير، دكتوراه) يتأثرون كثيراً بأفكار أساتذتهم ومجالات اهتمامهم في البحوث وأسلوب أداء البحوث وخلافها. وهذه فرصة أيضاً لتعزيز هذه الفائدة في دمج واستثمار طاقات العلماء والأساتذة الباحثين في رعايتهم واحتضانهم لأبنائهم الطلاب وإكسابهم مهارات البحث العلمي التي يحتاجها كل من يحصل على الدرجات بجودة وإتقان بل ويخرج منهم باحثون مميزون في خدمة الوطن وفي مصانعه وشركاته وأجهزته المختلفة ويساهمون بأبحاثهم ومهاراتهم البحثية في هذا المجال.
3- في مجال تطوير الجامعة من الداخل وتعزيز دخلها: إن أساتذة الجامعات بما أوتوا من إمكانات وطاقات سبق الإشارة إليها عقلية وفكرية وخبرة ومكانة اجتماعية ومسئولية قادرون على البدء في ترجمة أفكارهم ونظرياتهم وخبراتهم في تطوير العمل الجامعي من حيث التدريس والبحث العلمي وأسلوب الإدارة والتعاملات الإدارية داخل الجامعات ونمط التعامل مع الطلاب وتقديم الخدمات والاستشارات لزملائهم ولجامعتهم ومشروعاتها وزيادة دخلها.
4- في مجال خدمة الوطن: إن من مقتضيات ووظائف أساتذة الجامعات المساهمة والمشاركة في الأعمال والأنشطة التي ترتبط بخدمة المجتمع والوطن. ويصعب هنا في هذا المجال حصرها، ولكنها تصب في نهاية الأمر في خدمة المجتمع سواء كان ذلك في مجال الدورات التدريبية في المجالات التي تحتاجها الشركات أو المؤسسات الحكومية المختلفة أو لأفراد المجتمع أو المؤسسات غير الربحية الأهلية للتنمية والتدريب ولتأهيل وتحسين الإنتاج والتطوير للأفراد أو المواطنين.
إنه على سبيل المثال يمكن أن نعتبر من أمثلة المجالات والأنشطة التي يستطيع أساتذة الجامعات الإسهام بها في خدمة المجتمع التي يقوم أساتذة الجامعات بها مثل المحاضرات العامة في الجوامع أو المخيمات للشباب في أماكن تواجدهم أو في المستشفيات أو توعية المقدمين على الزواج أو التوعية من الحوادث المرورية أو الوقاية من المخدرات أو العنف الأسري أو الاهتمام والرعاية للأيتام أو التوعية الصحية أو الترشيد في الاستهلاك أو التوعية بحماية الشباب من الفكر المنحرف أو الانخراط في جماعات وغيرها من المجالات المختلفة، والمؤسسات الإعلامية المختلفة يمكن أن تكون مجالاً رحباً ومؤثراً كما هو قائم بالفعل لأساتذة الجامعات لتكثيف نشاطاتهم وإسهاماتهم. ونحن نشهد مساهمات كثيرة في هذه المجالات من قبل أساتذة الجامعات ولكنها في رأيي قليلة وغير كافية وبخاصة إذا ما قورنت نسب من يشارك بمثل الإسهامات من الأساتذة بمن لا يقوم بها من العدد الإجمالي لأساتذة الجامعات والذين أشرت إلى عددهم التقريبي في بداية هذا المقال. وعلى كل حال فإن التأثيرات التي يقوم بها الأساتذة في هذه الميادين كبيرة وتلعب دوراً هاماً ومؤثراً في وقاية وحماية الشباب والأطفال والأسر وكذلك في التوعية والعلاج لكثير من مشكلات وهموم المجتمع.
إن الدور والوظيفة المعقدة والمركبة لأستاذ الجامعة لا نجدها تتوفر لأي أصحاب مهنة أو وظيفة أخرى وبالتالي أصبحوا ثروة وطاقة بشرية هائلة. وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم. وإن الاعتبارات الاجتماعية لمكانة أستاذ الجامعة والصورة المدركة عنه تلعب دوراً رئيسياً في تأثيراته حيث ينظر إليه على أنه صاحب الخبرة، صاحب المسئولية، وصاحب الخلق، والقدوة، وبالتالي فإن إدراك أفراد ومسئولي المجتمع لتوفر هذه الخصائص في أستاذ الجامعة تساهم مساهمة مباشرة في التأثير والنتائج التي يتوقع منها.
والسؤال الضروري الذي يجب أن يطرح الآن هو هل أساتذة الجامعات بوضعهم الحالي مؤهلون وقادرون على تقديم ما يتوقع منهم، وهل هم جاهزون للاستثمار؟ وإذا كان هناك بعض العقبات والتحديات فما هي؟ وكيف يمكن التغلب عليها؟ هذا ما سوف يطرح في المقال القادم، وبالله التوفيق.
E-mail: zozmsh@hotmail.Com