أقدمت سيدة في المدينة المنورة في العقد الثالث مع عمرها، على الانتحار، بعد أن رمت بنفسها من غرفة في شقة سكنها في الدور الثاني، وذلك بعد أن سجنها زوجها في غرفة معزولة فترة طويلة، ثم حجبها وعذّبها بحجة أنها سحرته، ويريد أن يرغمها على فك السحر..!
* وعمدت سيدة في الدمام قبل عدّة أيام، إلى قتل طفلتها الصغيرة حرقاً بالنار، ظناً منها أنها مسكونة بالجن، وأنّ حرق جسد الطفلة بالنار، هو حرق للجن والعفاريت في شخص الطفلة، وبالتالي طرد الجن والتخلُّص منه بهذه الطريقة العجيبة..!
* ومثل ذلك يمكن أن يحدث مع فتاة تخشى ابتزاز المبتزين، وشاب يرتعد خوفاً من أن يُتهم بأنه منتحل أو متقمص لشخصية ما، نتيجة لأوصاف تُعطى من أحدهم، فتنطبق عليه زوراً وبهتاناً.
* ولا يمر يوم من الأيام، حتى نقرأ أو نسمع روايات عجيبة، وحكايات غريبة، تدور رحاها، وتحور محاورها حول السحر والسحرة، أو الابتزاز والمبتزّين، أو الجن والعفاريت، ووراء كل حكاية من هذه الحكايات، أو رواية من هذه الروايات، ضحايا كُثر من الناس، غالبيتهم من النساء والأطفال.
* والسحر أمر مشهور غير منكور، ومثل ذلك الجن وما في حكمها، وتعرف المجتمعات العربية والإسلامية من حولنا، بعضاً من ذلك، ولكن في حدود المعقول، وفي نطاق المقبول، فلا تُستنفر لهذا جهات، ولا تُحشد هيئات، وإنما يذهب الزّبد هباءً، ويبقى ما ينفع الناس.
* أما طريقتنا نحن كمجتمع، في التعاطي مع حالات السحر والسحرة، ومع حالات الابتزاز والتقمص والانتحال، وكذلك حالات الجن وغيرها، ففيها قليل من التعقُّل، وكثير من عدم التعقُّل، وفيها ما فيها من التهويل والتعظيم والمبالغة، إلى حد أن أصبح مثل هذا الأمر، جزءاً من ثقافة عامة، تلتقي عندها شرائح اجتماعية متنوعة، ولو اقتصر الأمر على حكايات تتداول بين ناس وناس، وروايات تسري بين بعض المسكونين بالخوف من السحر والسحرة، والرعب من الجن والعفاريت، لهان الأمر، ولكن تلبسنا لهذه الحالات التي هي في حكم الشاذ أصلاً، وكأنها جزء من حياتنا اليومية، والتعاطي معها وكأنها خطر داهم، يترصّد كل فرد في المجتمع، كل ذلك وغيره، أفرز نسقاً ثقافياً جديداً قوامه الشك والريبة والوهم، فهذا النسق الجديد، يفترض وجود سحر وساحر، أو تلبس جان ونحوه، كلما شعر الواهم بعارض مرضي، أو أحس بتغير في حياته، إلى درجة أن يسجن الزوج زوجته ويعذبها، ظناً منه أنها عملت له سحراً، وتحرق الأم طفلتها، ظناً منها أنها تحرق الجان الذي يتلبس هذه الطفلة.. إلى غير ذلك من خيالات وأوهام وشكوك وريب، ولّدتها حالات الفزع التي تتلبس بعض الناس أكثر من تلبس الجن بهم، وتسحر المتساحرين منهم، بعيداً عن السحرة وما يسحرون، وتدفع غير المبتزّين إلى دائرة من يبتزّهم، وتدفع إلى اقتناء كتب السحر والشعوذة، وقراءة الحوارات مع الجان، والإسراف أكثر وأكثر، في تقديم النقل على العقل، حتى أصبحنا نقاد بقول فلان وعلان، ولا نعطي عقولنا فرصة لتقول هي الأخرى رأيها.
* يظن بعض الناس - وبعض ظنهم ليس بإثم - أنّ في نشر صور وأخبار مفصّلة عن مصانع العرق، وتكرار ذلك مرات عديدة، يخلق ألفة بين الحالة وبين بعض المتابعين لها، إلى درجة الوصول إلى معرفة سر صناعة الخمرة مثلاً، وماهية حضورها في وسط مستهلك لها بهذا الحجم، ومثل ذلك نشر تفاصيل جرائم أخرى، مثل السرقات التي يقدم عليها بعض المراهقين أو المحترفين، متأثرين بما يشاهدونه في بعض الأفلام، ويمكن أن ينطبق الأمر على جرائم التحرش والاغتصاب والقتل وما إلى ذلك، والتركيز على قضايا السحر وتلبس الجان، وحالات ابتزاز الفتيات ونحوها، من هذا القبيل الذي يمكن أن يشكِّل ثقافة سلبية راجعة، فنسيء إلى أنفسنا من حيث أردنا لها الإحسان، ونشد أذهان الناس إلى حالات قد تكون صحيحة في حينها، لكن خيالات الناس المؤطرة بالرعب من مجهول قرأت عنه أو سمعت، سوف تنتج ما هو أسوأ عادة، وانظروا في حالة سيدة المدينة، وحالة سيدة الدمام، لتحكموا بعد ذلك.
* أتمنى أن نعفي أنفسنا من التركيز أكثر على مسائل كهذه، صحيح أن قصد بعض الجهات وبعض الأفراد هو توعية الناس وتنبيههم، حتى يتجنبوا مخاطر السحر وأخطار السحرة، وينأوا بأنفسهم عن مواطن الريب والشك، وما يوقعهم في أيدي العابثين من مبتزّين ومستغلين، ولكن التمادي في نصح بهذا الشكل، خطره يكون أعظم، خاصة إذا أصبح صنعة لمن يبحثون عن أمجاد شخصية، ويسعون لمكاسب مالية ومعنوية ونحو ذلك، فيظهرون كأبطال منقذين، في برامج متلفزة، وفي منابر مجمهرة، معيدين ومكررين قصصاً وحكايات، فيها ما هو صحيح وما هو غير ذلك لتأكيد التبليغ لا أكثر، وإذا عمدت جهات رسمية مثل هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى تنظيم معارض وأجنحة في معارض، تخصص لعرض الطلاسم السحرية، والشَّعر والخرز والودع والألبسة، وما يتظاهر به الساحر وما يفعل وما يقول، فماذا بقي لنقول للناس هذا هو السحر فتعلموه، ومثله ما يدعيه بعضهم ممن يمتهن الرقية، من ضرب بعض المرضى النفسيين لطرد الجان من جسده، وقد مات أناس تحت سياط بعض هؤلاء، وظهر أشهرهم - (العمري) - وقال في قناة فضائية بكذب ذلك، وأنّ الجان لا يدخلون في أجساد الناس، وأنّ المرضى كانوا يمثلون عليه تلبسهم بالجان، فماذا ننتظر إذن، من طالبي الكسب العاجل، عن طريق الدجل والضحك على عقول الناس، ومن ثم تصديق العامة لما يرون أو يسمعون، وهو كلام عادة ما يكون مرسلاً، ليس عليه ثبوت أو شهود البتة.
* ليت الهيئة في عهدها الجديد الواعد، تمارس دورها في ملاحقة كل ساحر وساحرة، وكل مبتز عابث، ولكن لا تركز ولا تسرف في العرض الاستعراضي في كل مناسبة لقضايا كهذه، وأن لا نسمع متحدثاً هيئوياً بعد اليوم، يحيل قضية هنا أو هناك، إلى متقمص أو منتحل لرجال الهيئة.
assahm@maktoob.com