أعترف بأن الكتابة عن لندن ك(مدينة) لم يعد يثير حماسة (الكاتب) كما كان العهد بها في خمسينات وستينات القرن الماضي، عندما كان يكتب الكتّاب عن غيومها وضبابها، ونهرها، وحافلاتها الحمراء بدوريها المثيرين، وعربات أجرتها السوداء الفريدة في تصاميمها..
أو عن برلمانها التاريخي العتيد، وساعته الشهيرة (بيج بن) التي يسمع دقاتها العالم، و(ركن المتحدثين) الأشهر في حديقتها (الهايد بارك) وحريته الأعجب.. أو عن ميادينها المترفة في (الطرف الأغر)، و(البيكاديللي) و(لسترسكوير) حيث يلهو اللاهون طوال الليل وإلى ساعات الفجر الأولى.. أو عن متاحفها التاريخية الإمبراطورية ومتحفها الحدثي الممتع (مدام توسون)، والطوابير المتراصة على بوابته بالساعات في انتظار دورها للدخول إليها.. أو عن دور عروضها السينمائية الأرحب التي رأيت في إحداها فيلم (الرسالة) للمخرج العربي السوري الشهير (مصطفى العقاد) الذي كان بحق واحداً من أعظم أفلام الدعوة إلى (الإسلام)، فلم أصدق.. بينما امتنعت عن عرضه معظم دور السينما العربية وفي مقدمتها دور عاصمة السينما العربية (القاهرة)..!!
كما أن الكتابة عن (لندن) في المقابل لم تعد تثير شغف (القارئ).. الباحث عن الجديد من المعارف والأخيلة والرؤى، والمتطلع للقراءة عن مدن لم يسمع بها.. وشواطئ لم يعرفها.. وببحار نائية لم يرها.. وجزر قصية لم يقف عليها، وليس عن مدينة ك(لندن) بعد طوفان النزوح الصيفي الهائل إليها من عشرات الآلاف من العرب.. والخليجيون في مقدمتهم. إن زمن الشغف الذي استقبل به القراء كتابات الشيخ رفاعة الطهطاوي عن (باريس) في (تخليص الإبريز في تلخيص باريز).. في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أو كتابات الأديب والمسرحي الفنان الأستاذ توفيق الحكيم عنها في (عصفور من الشرق) في النصف الأول من القرن العشرين.. قد ذهب وولى، وأحسب أنه لم يتبق منه.. غير ذلك الذي أحاط بكتاب الصحفي المصري الساخر والرائع محمود السعدني - شفاه الله -: (حمار من الشرق).. لأنه ترك الحديث عن (باريس) وحياتها وجمالها وليلها وتحدث عن تلك الفتاة الفرنسية (اللهلوبة) التي صدمتها أحوال وأهوال الشرق التي نقلها إليها ذلك (الحمار).. القادم من (الشرق)، فالقارئ.. لم يعد يستثيره الحديث عن تلك المدن الأوروبية المعروفة أو الشهيرة ك(لندن) و(باريس) و(روما) التي عرفها وعرف كل أخبارها وخباياها.
إن حديثاً عن مدينة ك(هافانا) الكوبية، بدل السياسي العنيد فيدل كاسترو، أو (لاباز) البوليفية.. بلد الثائر الأعند (شي جيفارا)، أو (بوغوته) الكولومبية.. بلد الكاتب الروائي الأشهر (غبرييل ماركيز).. ربما كان أكثر إثارة لشغف (القارئ) واهتمامه.
***
فهل أعتذر عن الكتابة عن (مدينة لندن).. لهذه الأسباب التي أوردتها (؟)، وقد اعتزمتها بعد أن فاجأتني (دعوة) الملحق الثقافي السعودي بها: أخي وصديقي الأستاذ الدكتور غازي عبدالواحد مكي.. لزيارتها والمشاركة في حفل افتتاح مبنى ملحقيتها الجديد.. وحضور اللقاء الذي سيجمع معالي وزير التعليم العالي الأستاذ الدكتور خالد العنقري بأبنائه المبتعثين لبريطانيا.. في اليوم التالي..؟
بعد طول تأمل، بدا لي.. أن (عذري) في الكتابة عن لندن يُجب (اعتذاري) عنها، وربما يلغيه.. أمام هاتين المناسبتين: افتتاح المبنى الجديد.. وحوار المبتعثين مع معالي الوزير، فهما مناسبتان تستوجبان الكتابة عنهما.. سواء أكانتا في مدينة لندن (المعروفة) التي لم تعد تثير حماسة الكاتب لها أو شغف القارئ بما يكتب عنها، أو في غيرها من مدن العالم وعواصمه المجهولة، على أن المصادفات كانت تخبئ لي سبباً أو.. عذراً ثالثاً للكتابة عن مدينة لندن، فقد اكتشفت مع تقليبي لصفحات جواز سفري استعداداً لملء (استمارة طلب التأشيرة) إلى بريطانيا.. التي تشبه - دون مبالغة - طلب الحصول على قبول لدراسة (الماجستير) أو لتحضير ال(الدكتوراه) في جامعتي أوكسفورد أو كامبريدج.. بأنني لم أزر لندن منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً. فما الذي حدث خلالها.. ل(شوارعها) و(حدائقها) وميادينها وتماثيلها..؟ هل انطفأت وترمدت تلك الشوارع.. أم جُرّفت تلك الحدائق.. أو استثمرت تلك الميادين بتأجيرها لمستثمرين محليين أو أجانب..!! وهل أزيلت عمودية مدينة (لندن).. أو نقلت تلك التماثيل (أو المجسمات.. بلغتنا) بحجة التوسعة للسيارات في بلد الستة عشر مليون ساكن.. كما اعتادت أن تفعل أمانة مدينة جدة في نقلها من مكان إلى مكان بجرأة وشجاعة وهمة تحسد عليها..؟! أما (سياسياً) فلم تغب (لندن) عني طوال تلك السنوات وما قبلها؛ فقد تابعت أدوارها الخطرة، ومواقفها المفصلية المؤثرة في أحداث العالم - كما يتابع أمثالي - منذ أن غادر المحافظون المنزل رقم (10 دواننج استريت) بامرأتهم الحديدية (تاتشر) وآخر محافظيهم.. الشعبي الوسيم (جون ميجور)، وقَدِم العمال بنجمهم الساطع آنذاك (توني بلير).. الذي انطفأ في دورته الثالثة بكذبته البيضاء أو السوداء عن إمكانية (عراق صدام حسين) العسكرية.. في (تدمير) بريطانيا في خمس وأربعين دقيقة!! حتى يُرغم البريطانيين بقبول الدخول إلى جانب صديقه (بوش الابن) في غزوه الإجرامي غير الشرعي للعراق.. إلى أن انكشفت كذبته السوداء، وهبطت شعبيته، وترنحت إمكاناته.. في استمرار القبض على مقاليد السلطة، فلم يجد مفراً من مغادرة المنزل رقم 10 ب(الاستقالة) كما حدث لسلفه المحافظ الأسبق (أنتوني إيدن) بعد غزوه لمصر، وفراره إلى جزيرة (جامايكا)، ورميه ب(مستقبل) المحافظين السياسي ليد وزير ماليته (هارولد ماكميلان)، لكن (بلير) لم (يفر إلى جامايكا) أو أي جزيرة أخرى من جزر الكاريبي بعد أن أمّن له صديقه (بوش الابن) وظيفة لا قيمة ولا مبرر لها.. هي (مندوب اللجنة الرباعية).. إلا أنه فعل كسلفه الأسبق عندما رمى بمستقبل (العمال) السياسي في يد خلفه ووزير ماليته (جيمس براون) الذي لا يلوح - قياساً - بأن حظه السياسي في الانتخابات القادمة سيكون بأفضل من حظ رئيسه (بلير).. لو قدر له أن يبقى في منصبه وأن يدخل الانتخابات القادمة، لكن هذا.. حديث آخر.
***
عندما وصلت إلى (مطار جدة) لألحق بطائرة (السعودية) المغادرة في الواحدة ظهراً من يوم السبت.. بعد أن انتزعت تأشيرة الدخول إلى بريطانيا قبل ساعة من وصولي إليه، لم يفاجئني (العك) المكاني الذي اعتدت عليه في مطاري جدة: (الجنوبي) و(الشمالي) منذ أربع أو خمس سنوات مضت، أو منذ أن فاجأتني لأول مرة تلك (البحيرة) اللصيقة بالمبنى الجنوبي التي لا أدري من أين جاء ماؤها.. إلا أنها ظلت آمنة على حياتها واستمرارها دون أن تمتد لها يد لتجفيفها.. شهوراً بعد شهور.. وربما سنة بعد أخرى، فلم أعد أدري.. بعد أن اعتمدت على الخطوط الأجنبية في أسفاري الخارجية، ولكنني أحسب أن توقيت الخلل والتداعيات في (المطار الجنوبي).. بقدر ما كان متزامناً مع الظهور المفاجئ لتلك (البحيرة) كان متزامناً أيضاً مع تلك اللحظة التي تمت فيها إزالة (النافورة) الجميلة التي كانت أول ما يستقبل القادم إلى (جدة) بعد خروجه من مبنى مطارها الجنوبي، بحجة أنه لا توجد أموال كافية لصيانتها.. بعدما تردد عن امتناع شركات الصيانة أيضاً عن صيانة بوابات الدخول (الأوتوماتيكية) للمطار، فتوقفها عن العمل الذي أدى إلى إلغاء بعضها بجرة قلم.. ثم نصفها أو أكثر، إلى جانب اهتراء سيور نقل حقائب الركاب، وتعطلها بين الحين والآخر، وتوقف السلالم المتحركة بين دوري المبنى عن العمل.. بحجة أن تلك الشركات لم تُصرف لها مستخلصاتها (!!) على أية حال، سرعان ما تحول موقع النافورة.. إلى موقف للسيارات تم تأجيره لأحد (المستثمرين) الذي لم يفعل شيئاً غير وضع عدد من الأرصفة لوقوف السيارات و(عصاتين) عرضيتين، و(كشكين) أحدهما على مدخل الموقف والآخر على مخرجه.. لقبض التعرفة (ريالين عن كل ساعة).. مقابل الوقوف وسط شمس جدة الحارقة معظم أيام السنة، أو أربعة وعشرين ريالاً.. إلى ثمانية وأربعين ريالاً.. إذا فقد صاحب السيارة بطاقة دخوله إلى الموقف، الذي يعتبر بحق أسوأ موقف للسيارات عرفته أفقر مطارات العالم وأشدها بؤساً.. أما داخل المطار، فقد تحول إلى سوق تجارية ضخمة تشغل معظم ساحاته.. بها كل ما تريد وما لا تريد، وإلى الحد الذي يجبر ركاب الدرجة الأولى والأفق على المرور.. بين (فترينات) المعروضات دون أن يعرفوا اتجاههم الصحيح إلى الطائرة، أما ركاب (السياحية).. فهم أحسن حالاً؛ إذ إن عليهم فقط أن يعبروا وسط ذلك المقهى الشعبي المتواضع.. أو إلى جواره حتى يصلوا إلى بوابات المغادرة ف(الأتوبيسات) التي ستحملهم إلى الطائرة. ما أكثر.. ما عانى أهالي جدة وزوارها ومن اختاروا سكانها من أبناء المملكة.. من (مطاريها)!!
لقد كان هناك مسؤولون.. فيما أعرف، قادرين.. علماً ومعرفة وخبرة على منع كل هذا الذي حدث، لكنهم كُبلوا بتوقف بعض الاعتمادات.. وإلغاء بعضها بالكلية، فالتجؤوا.. إلى تأجير المساحات في الداخل والخارج.. لتأمين الضرورات من احتياجات مطاري المدينة اللذين يستقبلان ويودعان في كل عام ما يزيد عن خمسة ملايين راكب، إلا أنه لم يكن من بين تلك الضرورات - بطبيعة الحال المربكة التي عاشها المطار الجنوبي - تشغيل أو صيانة تلك (النافورة).. أو حتى الحفاظ عليها إلى حين ميسرة..!!
***
الآن.. وبعد أن قطعت مراحل تحسين المطارين (الشمالي) و(الجنوبي) قرابة العام، فإن الوضع.. لم يتحسن إلى تلك الصورة المأمولة، التي تتماثل مع مكانة جدة وصورتها عند القادمين إليها والمغادرين لها.. ك(عروس) للبحر الأحمر، ف(العك) المكاني خارج المطار الجنوبي.. لا يزال على حاله، و(موقف) السيارات الاستثماري.. بكل فوضويته ما زال قائماً في وجه الركاب القادمين ومستقبليهم، وكتل الحواجز الأسمنتية المهولة التي لم أر مثيلاً لها في أي مطار.. حتى مطار الملك خالد نفسه في العاصمة (الرياض).. لا تزال تسد الطريق أمام المغادرين، وتعطل سرعة وصولهم إلى بوابات المغادرة.. المغلق نصفها، أما داخل المطار.. فلم يحدث به غير اتساع في الرقعة دون أدنى درجة من التنسيق المصحوب بلمسات الذوق والجمال.. كما هي الحال في مطارات العالم الراقية، ففي الداخل لا يعرف المسافر طريقه.. إلى مكان حصوله على (بطاقة الصعود) إلى الطائرة، وعندما يعرف بسؤال واحد أو اثنين ممن يصادفهم ويتوسم فيهم الاستجابة لاستفساره.. فإن عليه أن يكون صبوراً عندما يجد موظف منح بطاقات الصعود إلى الطائرة مشغولاً باستخراج بطاقات لأصدقائه ومعارفه و(الموصى.. عليهم)، بل وعليه أن يكون أكثر صبرا عندما يجد آخرين جاءوا من خارج (الطابور).. وخُدموا قبله بينما هو صاحب الترتيب الأول.. ما زال ينتظر..!! ثم إن عليه بعد ذلك أن يذهب بحقيبته - إذا كان مسافراً.. داخلياً - للميزان الوحيد الذي يعمل للتعرّف على وزن حقيبته، فإذا خلص من هذه (الدوخة).. فإني أنصحه بألا يذهب إلى (صالون) ركاب الدرجة الأولى والأفق - إذا كان مسافراً.. دولياً - حتى لا يتعرض إلى أي نكد جديد أو انهيار عصبي مفاجئ لا قدر الله. ف(صالون) الدرجة الأولى أو ما يسمى بذلك.. ربما جيء به من (حراج ابن محفوظ) في جدة.. أو تم نقله على وجه السرعة من (حراج ابن قاسم) في الرياض إلى صالون الدرجة الأولى رأسا..!!
إن ما نفذ مما يسمى بمشروع (تحسين) مطار جدة الجنوبي.. الذي تتولى - فيما أعلم - الإشراف عليه مصلحة الطيران المدني.. يظل هزيلا متواضعا ضامرا بمعايير المطارات الخليجية وليس الأوروبية في ظل المبالغ التي رصدت لذلك التحسين، وهو بحاجة في هذه المرحلة إلى نقل دم فني وجمالي عاجل.. ينقذ مشروع التحسين، أما تحسين المطار الشمالي.. فيظل هو الأحسن مقارنة ب(الجنوبي).. إلا أن المسافر عبره يحتاج إلى (كولومبوس) يكتشف له الممرات الأرضية، والبوابات، ومواقع مواقف السيارات.. خاصة إذا كان سفره ليلا..!!
= = =
عندما سمعت - بصعوبة - (النداء الأول) عن موعد إقلاع طائرتي.. حمدت الله؛ إذ لم يطل انتظاري البائس في صالون الدرجة الأولى دولياً.. لأركض قبل (النداء الثاني) مع الراكضين صوب بوابات السفر، التي وإن كانت هي الأفضل في الوصول إليها، إلا أنها بحاجة إلى مزيد من اللوحات الإرشادية التي تطمئن المسافرين إجمالا، والغرباء والأجانب منهم خاصة.. على صحة مسارهم، لأصل إلى مقعدي في النهاية.. فأهدأ وأهنأ لست ساعات ونصف.. من الراحة والخدمات المتميزة والطيران المستقر؛ ليتأكد لي ما كان يتردد دائما على ألسنة الكثيرين من ركاب (السعودية).. من أن خدماتها على (الجو) هي الأفضل - في كل درجاتها وفي مقدمتهم درجة (الضيافة) - مقارنة بخدماتها المضطربة على (الأرض)..؟!
= = =
مع غروب الشمس.. كانت الطائرة تهبط بي في مطار (هيثرو) اللندني العتيد، لأعيد تشغيل (جوالي).. فيفاجئني بأنه قد أصبح جثة هامدة: لا ترسل ولا تستقبل.. فما العمل..؟
سألت طيارا سعوديا نبيلا.. اكتشفت وجوده معنا (كراكب).. ونحن نغادر الطائرة ليحتوينا (هيثرو) بأبهته ونظافته وأبسطته الزرقاء الفاخرة، وسيوره المتحركة، ولافتاته الإرشادية التي تحيط بنا في كل مكان: وأين بهو أو قاعة المستقبلين.. على أمل أن أجد أحداً في استقبالي..؟ فقال: تفضل معي.. لتأخذ حقيبتك أولاً، وسنجد القاعة التي ينتظر فيها المستقبلون.. بعدها، فمضيت معه أو خلفه.. ومحاولاتي على أشدها في إخراج (جوالي من سكتته القلبية المفاجئة.. دون جدوى)، لنصل إلى بهو المستقبلين.. فلم أجد أحدا في استقبالي، بينما (الجوال).. ما زال في غيبوبته، فما الحل..؟ وما العمل..؟ وإلى أين أذهب الآن..؟
كان علي أن أودع الطيار النبيل أولا، لينصرف إلى شؤونه.. مشكورا، ولأتفرغ للتفكير في حل مشكلتي.. التي قطعت الاتصال بيني وبين كل الناس: الذين جئت إليهم في (لندن).. والذين غادرتهم في (جدة)..؟
بعد دقائق سوداء طويلة.. ظهر بين المستقبلين رجل أربعيني قصير القامة.. يرفع لوحة عليها اسمي، فناديت عليه بكل فرحي وسروري.. لظهوره، وبعد تقديم نفسي إليه ومصافحته، كان هو يقدم نفسه.. بأنه موفد من قبل (سعادة الملحق) لاستقبالي، وليكون في خدمتي بعد ذلك هو و(عربته) طوال مدة إقامتي في لندن. شكرته بحرارة وامتنان.. ويدي تمتد إلى (جواله) - بعد استئذانه وتقديم شرح سريع لحالة السكتة القلبية المفاجئة التي تعرض لها (جوالي) والتي لم أعرف أسبابها حتى تلك اللحظة - مع اقتراح مني بتبادل (الشرائح) معه.. حتى أتمكن من إجراء اتصالاتي العاجلة، وفي مقدمتها الاتصال بالصديق العزيز الدكتور غازي.. لإخباره بوصولي، وتجديد الشكر له على دعوته، وإرساله لهذا السائق الذي انتشلني - فعلاً - من وسط حيرتي مع هاتفي (الهامد).
بعد أن جاءني صوت الدكتور غازي مرحبا ومحمدا بسلامة الوصول، ومؤكدا على موعد حفل الافتتاح عند الحادية عشرة صباحا من يوم الأحد (5 إبريل) خشية عدم تصديقي ل(موعد) افتتاح في يوم الإجازة.. كنت أودعه لألحق بالاتصال بابني (الأصغر) المبتعث لدراسة الهندسة الميكانيكية في (جامعة لندن) ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين الفذ للابتعاث في سنته الثانية، والذي فقدت الاتصال به.. منذ (الغيبوبة) التي دخلها (جوالي).. لأجده في إحدى عربات القطار المتجه إلى مطار (هيثرو)، فأعدل من مساره بعد التشاور مع (السائق).. ليتوجه إلى الفندق الذي لم أعلم بتغييره إلا من هذا السائق الذي بدا لي كريما نبيلا حتى وإن كان مرسلا من (سعادة الملحق) كما قال، فقد التقاني.. في أشد لحظاتي حراجة، لحظة أن همد (جوالي) ودخل في غيبوبة لم أعد أدري كيف أخرجه منها..؟
***
في الوقت الذي كان (ابني) يعدل فيه مساره إلى (الفندق).. كان السائق قد وضع حقيبتي في العربة، لآخذ مكاني في المقعد الخلفي.. وأبدأ في (الدردشة) معه: حول (لندن) وحياته فيها، ليتبين لي.. أنه: إيراني الأصل.. ومسلم بطبيعة الحال، إلا أنه أسمر اللون.. وكأنه من أبناء المدن أو القرى الإيرانية الحدودية مع باكستان.. إذ إن لهجته الإنجليزية المعجونة ب(الأوردو).. كانت تؤكد لي ذلك، ولكن يحمد له.. أنه استطاع تجاوز العقبات التي تعترض أمثاله.. ليصبح سائق أجرة مرخصاً له بالعمل في بريطانيا بأسلوبها المروري الدقيق والمختلف (السير يسارا.. ومقاود العربات يمينا)..!! مع خروجنا من الموقف الأرضي.. واستدارتنا، بدت أمامنا صالة الوصول الثالثة من مطار (هيثرو) وكأنها مطار بحاله: طولا وعرضا وارتفاعا.. وقد اتسق كل ما حولها، فهذا طابور عربات الأجرة، وهذه مواقف الحافلات، وهذا طريق (الأندرجراوند)، وهذا الممر يقودك إلى القطار.. وهذه عربات (الترللي) تصطف لامعة في انتظار محتاجيها من المسافرين، وهذا رصيف المبنى.. واسع نظيف لامع لا توجد عليه كتلة أسمنتية واحدة في مدينة يفترض أنها مستهدفة من قبل الإرهابيين من كل نوع ولون..؟!
عندما احتوانا الطريق في شفق المغيب.. وأخذت تتابع أمامي مشاهد لندن على صورتها الجميلة التي رأيتها عليها آخر مرة.. بشوارعها وميادينها وحدائقها ومبانيها وناطحاتها التي لفت انتباهي ازديادها، بدا لي وكأن الزمن.. لم يمر من هنا.. فكل شيء لامع.. نظيف، متسق مع نفسه وما حوله.. حتى سور حديقة (الهايد بارك) الأسود العتيد كان وكأنه أعيد طلاؤه الشهر الماضي، أما القوس الرخامي الأبيض - أو (الماربل آرش) - الذي يقف على يمين الداخل إلى قلب المدينة عبر أكبر وأطول شوارعها (إكسفورد).. فقد كان وكأنه غسل بالماء و(الشامبو) يوم أمس. عندها تكلم سائقنا (المستر أميني) ليقول: (يمين الماربل آرش.. سيكون فندقنا).. كنت ألمح الابن العزيز.. في انتظاري على أحر من الجمر، لأسلم عليه وأعانقه وأسلمه هاتفي (المغمى) عليه، فيدعوني بعد دخولنا الفندق إلى حفل عشاء.. بأحد المطاعم اللبنانية على شرفي.. وعلى نفقتي!!
***
في الطريق إلى المطعم اللبناني الذي سرناه على أقدامنا.. في مناخ ربيعي أقرب إلى البرودة منه إلى الدفء، كنت أتأمل، وأتلفت فيما حولي وأتعجب.. فلم يتغير شيء من قسمات المدينة، وملامحها، وموجوداتها طوال تلك السنين!! لكأن ذلك هو سر أسرار (عظمة) المدن.. المعتزة بشخصيتها وتاريخها وتراث أجيالها.