قريبا سيصبح مشهد مَن يحمل الورقة ويمتشق القلم، كمشهد رجل من العصور الحجرية، يحاول بأزميله أن ينحت صورة فوق جدار الكهف، بل سيغدو القلم والورقة فوق المكتب (وحملة الأقلام الذين يصرون عليها برومانسية) هم أنفسهم تحفاً نفيسة.
فبعدما كانت القوى الاقتصادية تنحصر في (رأس المال والقوى العاملة)، أضيف إليها ضلع ثالث وهو المعرفة، حيث أصبحت المعرفة المصدر الأساس للقيمة المضافة إلى المنتج، وهو المصطلح الذي يطلق عليه عالم الاقتصاد الأمريكي الشهير (توفلر) موجة الحضارة الثالثة، فالموجة الأولى كانت حينما اكتشفت المجتمعات البشرية الزراعة، ومن ثم الموجة الثانية مع الثورة الصناعية، حتى نصل للموجة الثالثة عبر الثورة المعرفية.
حيث تسعى المجتمعات المتقدمة للسيطرة على الانفجار المعلوماتي حولنا من خلال تنظيم المعلومات وترشيحها وتقطيرها في صورة مفاهيم ومعارف يمكن تطبيقها عمليا في حل المشكلات. ففي اقتصاد المعرفة تتقدم المعرفة على العلم، والمعرفة هنا يراد بها الترتيب المنظم للمعلومات والمفاهيم وكيفية تطبيقها على عمليات الإنتاج.
على المستوى المحلي يرتفع استعمال الإنترنت بين الخليجيين إلى أعلى نسبة في العالم العربي، قال مدير عام مؤسسة الرخصة الدولية لقيادة الكمبيوتر لمجلس التعاون الخليجي بحسب ما نشرته العربية نت: (إن معدل استخدام الإنترنت في المنطقة نما وارتفع بنسبة 1176% في الفترة بين العامين 2000 و2008م، ولم تتوقف دول الخليج عند هذه النسبة الهائلة، بل من المتوقع أن يتضاعف عدد مستخدمي الإنترنت في الخليج ثلاث مرات ليصل إلى 25 مليون مستخدم مع نهاية العام الجاري.
هذه الأرقام الكبيرة هل هي مؤشر لمجتمعات معرفية؟ هل نقاربها ضمن تفاؤل مطلق؟
لا أدري تحديدا؟ فصدمة الاحتكاك الأولى بين تقنية المعرفة والأجيال الصاعدة، لطالما خيمت عليها ظلال سوداء قاتمة ابتداء من الصحون اللاقطة مرورا بالجوال أبو كاميرا انتهاء بالمواقع الإلكترونية، العلاقة مترددة، يدخلها الناشئة بروح قلقة مشبعة بالذنب، بل هم يقدمون رجلا ويقهقرون أخرى، ضمن مناخ مستريب يغلب الجانب الشيطاني وسط سيل من الفتاوى المضادة، يخالط هذا قصص مؤلمة ودامية لانتهاك حرمات، وابتزاز ومساومات، وما هنالك من تفاصيل التابو المطوق بالدنس والمحرمات.
ليس هذا هو المشهد القاتم الوحيد على مستوى مسيرتنا لصعود الموجة الثالثة أو ما يصنفونها بمجتمعات المعرفة، ففي المجتمع الإداري هناك مجموعة لا بأس بها من أصحاب (وصاحبات) المناصب الإدارية العليا يعجزون عن استعمال الحاسب الآلي ضمن شروط ومتطلبات الإدارة الحديثة، ويعتقدون أنهم يستطيعون السيطرة على الموضوع ضمن ملكاتهم ومواهبهم الفطرية الخارقة (أي بالبركة)، بل يصرون على أن أهم متطلبات الإدارة هي ملفات أرشيفية كبرى تحشد داخل دواليب لحفظها أهمها دفاتر الحضور والغياب، في زمن تنهض به المؤسسات الأكاديمية الكبرى حولهم نحو عصر الشرائح الميكرو وعصر النانو.