لم أقم برحلة تستحق الضبط إلا قيدتها, وحسب التمكن الوقتي يكون النشر, وفي التاسع عشر من شهر صفر من عام 1423هـ قمت والشيخ/ محمد بن سعود الحمد بزيارة صاحب السمو الملكي النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية الأمير/ نايف بن عبد العزيز حين أجريت له العملية الجراحية في ركبتيه والتي تكللت بالنجاح بفضل الله وقد ضبطت القواعد من هذه الرحلة فبقيت ضمن ضبارة أوراق الرحلات ولكثرة المشاغل والشواغل لم أستطع تهيئتها للنشر إلا هذه الأيام ولعلها مصادفة كريمة اتفقت وصدور الأمر الكريم لسموه نائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء وهنا أقول:
|
كل انتقال تبعد فيه النجعة سفر، سواء كنت راجلا أو على دابة أو آلة، من طائرة أو سيارة ونحوهما، وهو لا يخلو من مشقة في جميع أحواله، والمشقة هذه منها ما يكون جسميا ومنها ما يكون نفسيا فانتقالك من بيتك ووطنك مشقة، وبعدك عن أهلك ومحبيك مشقة وعلى حد:
|
وأمرّ ما تلقى حياتك لحظة |
تنأى بها عن موطن وحبيب |
والفراق أمرّ ما يطعمه المرء، مهما كان،سفراً إلى حبيب أو في طلب علم، وإن تكن فيه متعة فمؤقته وإذا وصلت وتحققت الأمنية، وأديت واجبك هناك تبقى بين متجاذبين الوطن والأهل والأحبة والولد، والثاني من ركبت له السفر وجزت إليه المهامه والقفر، والسباسب والبحر، في بلد ليس ببلدك وفي قوم ليسوا بقومك إلا من كان في معية من دعاك إليه السفر، وذاك ما وقع لي حقا حين سافرت والصديق الشيخ/ محمد من الرياض إلى جنيف حيث صاحب السمو الملكي الأمير/ نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية، رجل المهمات ورب الحكمة، ولا ينبئك مثل خبير وكفي بالأفعال شهودا، وليس الأمر هنا بحاجة الى طلب إثبات، ولا زيادة من استيضاح، وما احتاجت الشمس رابعة النهار إلى دليل ولا احتاج القمر ليلة تمامه إلى شاهد، ذهبنا إلى هنالك حيث كان سموه وقد أجريت له عملية جراحية في ركبتيه تكللت بفضل الله بالنجاح، وكنت قبل السفر قد هاتفت مستوضحا عن صحة سموه بعد إجراء العملية فكان الحظ مسعفا أن أجابني سمو ابنه البار - والشجرة الكريمة لا تثمر إلا كريما - وأهل البر يجدونه في أولادهم وما ذاك بمستغرب على صاحب السمو الملكي الأمير/ سعود بن نايف وإخوته الفضلاء، إذ قال سموه بعد السلام والسؤال عن صحة سمو والد الجميع: أبشرك أنه في خير وصحة تامة ولله الحمد، فاستأذنت سموه بالمجئ فرحب، فأعددت العدة وسافرت والرفيق محمد من الرياض إلى سويسرا عبر طيران الخطوط السعودية لما لا يخفى على من جرب غير هذه الخطوط، فأقلعنا من الرياض مساء يوم الخميس 19-2- 1423هـ الساعة الحادية عشرة وخمس عشرة دقيقة متجهين الى جدة فوصلنا جدة الساعة الثانية عشرة وأربعين دقيقة تقريبا وبقينا في المطار حيث يستبدل طاقم الطائرة وينزل ركاب ويصعد آخرون، فأقلعنا من جدة الساعة الثانية ليلا وعشر دقائق متجهين بمشيئة الله إلى جنيف فاجتزنا من البحر الأحمر فمصر فبلدان وبحار منها: نابولي، فالبحر التيراني، فروما، فبحر ليجوريان، فلبدان أخر وكان معنا في الرحلة مجموعة من السعوديين وبعد إقلاع الطائرة من جدة جاء إلينا رجل في السبعين من العمر وعليه أثر الخير فسأل بعض الأسئلة الفقهية فسألناه عن اسمه وممن يكون، فقال إنه من العجمان، وأن اسمه حمد بن ريمية العجمي فدار حديث في القبائل وتاريخها وفي العجمان بخاصة، وبعد الأجوبة على ما سأل عنه وما دار في أخبار القبائل، قال: أنتم طلبة علم دين، أو تاريخ ومن أي القبائل أنتم، فقلت: نحن (حنشل) على المفهوم العامي فقال: إنكم تحيّرون؟ تجمعون الحنشلة والعلم، وكان نديما طيبا ومؤانسا لطيفا وقد انصرف منا إلى مقعده ونام صاحبي وأخذ النوم في القوم على جملتهم وبقيت وكما قال الطغرائي:
|
طردت سرح الكرى عن ورد مقلته |
والقوم ميل على الأكوار والرحل |
فأضأت الشمعة الخاصة بالمقعد وكل أضواء الطائرة مطفأة فاهتبلتها فرصة إذ لا أجد من يشغلني عن خواطري، فبدأت أكتب في قصيدة (من وحي الوفاء) ولم أشعر إلا وقد حانت صلاة الفجر الساعة الخامسة والنصف فأقيمت جماعة في المكان المخصص لها خلف الطائرة ومن بين أولئك الشيخ/ عبد الوهاب بن سعود السديرى والشيخ/ علي سليمان السعوي، وصاحبنا/ العجمي/ ولكون الموضع لا يستوعب الجماعة مرة واحدة فقد تعاقبت بما يستوعبه المكان، وبهذا وغيره تتميز الخطوط السعودية وبعد الصلاة أخلد القوم للنوم وما أهنأ من يأتيه النوم في السفر فبقيت أرتب قصيدتي إذ أجد في الطائرة ما لا أجده في غيرها من تداعي الخواطر وانتظامها وانقيادها سهلة سلسة، وكيف لا تنقاد وهي إلى نايف بن عبدالعزيز، وإذا كان للشعر شيطان فقد أسعف تلك اللحظات، وما كاد يعلن الهبوط في مطار جنيف إلا وقد أتممتها، وحال الهبوط كان المطر غزيرا فهبطت برفق بفضل الله الساعة الثامنة صباحا بتوقيت المملكة من صباح الجمعة 20-2-1423هـ فأخذت وصاحبي الحقائب وهبطنا، وفي وقت وجيز تم إنهاء إجراءات قدومنا، وخرجنا وقد امتلأ المطار بالسعوديين اذ لا تكاد ترى إلا سعوديا، بل كأنك في السعودية لولا الموظفون وصغر المطار، وحال خروجنا وجدنا سيارة أجرة يقودها عربي من الجزائر فارتحنا لهذا أيما ارتياح، خاصة وأننى وصاحبي لا نعرف شيئا من لغة البلد ولا اللغات الأخرى، فركبنا إلى فندق (برنانا) والذي حجزنا فيه ونحن في الرياض وكان يقع حيث نريد قربا من محطة القطار وبحيرة جنيف والمطاعم العربية والأسواق، فأنزلنا حقائبنا وكنا بعد سفر وتعب فأخذنا النوم حتى الثانية ظهراً بتوقيت المملكة الواحدة بتوقيت سويسرا وحال ما استيقظنا ذهبنا فتناولنا طعام الغذاء في مطعم يقع جوار الفندق وبعد صلاة الظهر والعصر جمعا خرجنا إلى بحيرة جنيف سيرا على الأقدام وقد خلعت الشماغ، وحال وصولنا البحيرة التقينا ببعض رفقتنا في الطائرة يدورون حول البحيرة كما كنا وهي محاطة في الأمم المتعددة الأجناس والألوان، وبعد استمتاع جميل في تلك البحيرة تحت رذاذ المطر والهواء البارد الذي حفزنا على طلب الأردية الواقية من البرد عدنا إلى نزلنا فارتدينا اللباس الشتوي بكامله، وفي الساعة الخامسة والنصف بتوقيت المملكة مساء هاتفت نزل سموه ومستراحه بعد العملية مستخبراً عن جلسة سموه فقال محادثي بعد معرفة الاسم: الآن تأتون. فارتدينا مشالح الشتاء وذهبنا إلى هنالك، ولم نجد أي تأخير في الدخول والوصول إلى مجلس سموه ولسرعة الدخول لم أتوقع أن سموه جالس بين الجالسين ولم أخبر أنه جالس، بل تصورت الجلوس ينتظرون مجيء سموه، وبينما كنت سائرا لأجلس حيث ينتهي بي المجلس لم أشعر إلا بسموه وأنا إلى جانبه من اليمين يقول: حياك الله يا عبدالعزيز، ويالها من مفاجأة؟ فقلت الله الله أسموكم هنا معذرة معذرة، إذ طفح النظر وإن للداخل لدهشة وكان لي من عذر أن سموه لم يكن أمام نظر الداخل حين يدخل خاصة وأن للداخل ما له؟، ولم أتوقع أن يكون الأمر من السهولة بهذه الصفة وصولا إلى سموه وهو حديث عهد بعملية جراحية. وبعد السلام أجلسني سموه إلى يمينه جعل الله أيامه يمناً وعمره مديدا، وعرّف بي بما لا أنساه فضلا لسموه وكان المجلس مكتظا بالزائرين والجالسين وغيرهم، فبدأ سموه حديثه العذب - وكما هي عادته - في الأدب وبعد انتهاء حديثه يحفظه الله، أستأذنت في القصيدة والتي تعتبر في حقيقتها مرتجلة خاصة وأن سموه عرّف بي وأنني من أدباء المملكة العربية السعودية إلخ....، فأذن فألقيتها وهي:
|
|
على قدر ما عانى الكريم تجاربه |
وأي زمان عاشه لا يشاغبه؟ |
وليس بعاب أن يحب أخو |
إذا لم تكن تلهيه في الحب كاعبه |
إذا خلت الدنيا من الحب أجدبت |
مرابعها واستثقل العيش راغبه |
ومن كان مثلي لا يلام بحبه |
وإن أكثرت عذاله وعواتبه |
حياة بلا حب حياة مريرة |
وكأس بلا حب، أيلتذ شاربه؟ |
ومن لم يجد للحب معنى فإنه |
يحارُ به حتى يقوم يحاربه |
لعمرك إن الحب سر محجب |
نعيش به لغزا إذا ما نراقبه |
لك الخير محمود الشمائل نايف |
وفأل إلى فأل كريم يواكبه |
لك الحب إجماعا لك الحب مفردا |
لك الحب يترى ما همى الودق ثاعبه |
سعدنا لعمري إذ سمعنا بشارة |
أزالت أسى فيما تسر عواقبه |
إذا طبت طبنا لا شكوت كلالة |
وأزهر منا روضنا وسباسبه |
وكيف بنا لا نعلن الشكر ظاهرا |
وقد أوجبته للكريم مناقبه |
وإيجاب ما قد أوجب الله واجب |
وأكرم من يرعى العهود أطايبه |
حظيت بما لم يدرك القوم بعضه |
وأكمل ما ياتى الكمال يناسبه |
حليم حكيم عادل متواضع |
بعيد قريب، صادقات تجاربه |
أبى حمي في المروءات نبعها |
ومنه وفيه المجد تعلو مراتبه |
وكم يا ترى من يستحق عقوبة |
عفا عنه فضلا حين قام يغاضبه |
ومن يملك البطش اقتدارا وقد عفا |
فليس كمن إذ يستطيع يعاقبه |
نطاسي أغلاق، نطاسي حكمة |
شفاء مباهيم المغالق ثاقبه |
إذا أشكل الأمر البهيم مخارجا |
أجال بها رأيا تجلت كواكبه |
فجاء كضوء الفجر أشرق وجهه |
تضئ له أرجاؤه وغياهبه |
لك الله كم يسمو بك المجد منهجا |
ورجلك أعياها من المجد غاربه |
فلا غرو إذ تشكو لك الرجل أينها |
لها العذر إذ تشكو وتلك عجائبه |
فكم جشم العزم الكريم كواسبا |
وأثقلها حتى شكا منه لاحبه |
إليك أبا من يسعد الناس نسبة |
سعود، ومن إلا أبوه يقاربه |
نجيب نجيب المجد أنجب منجبا |
إذا قيس شأو هل يقاس كباكبه |
أتينا هنا شوقا يضوع محبة |
زكت إذ زكى مَنْ في هواه يناصبه |
خليلك من تصفو له عن مودة |
ويزداد صفوا ما بقيت تعاتبه |
إذا ما صفا يوما لك الدهر مشرب |
يطيب فتصفو في الحياة مشاربه |
ويؤلمه ما تشتكي فكأنه |
هو المشتكي إذ ساقه لك واجبه |
صفا لك لا عن مطمع يستميله |
وأنتم رجاء لا تغيض سحائبه |
وأبلغ حب ما أتى عن عقيدة |
وأهونه ما تستمد مكاسبه |
إذا اختلفت من ذي التودد خلة |
يبيّن ما يخفي من الأمر حاجبه |
وتبدو على تلك المقالة هالة |
فتفضحه فيما أسرّ مثالبه |
دليلك ممن لا يود ثلاثة |
إذا ما رغبت الدهر يوما تصاحبه |
نحبك حب الوالد البر فعله |
بنوه إذا ما الحب أجدب طالبه |
تلاقت على هذا الأباعد مذهبا |
وأجمع فيها شعبه وأقاربه |
ولو لم تكن ذات الجناح وسيلة |
إليك لنصت بالمحب ركائبه |
تخطت بحارا واستجازت مهامها |
وجازت فسيحا ماخرات مراكبه |
بها حيث شاء الله تقضى لبانة |
ويشفي غليل واهج الشوق لاهبه |
إليك من الأم الرياض رفيفها |
سقى ربعها من صيّب الغيث ثاقبه |
كأني بها إذ أزمع القوم رحلة |
تقول: وأحلى القول تهدى مراضبه |
ألا ليت أني بينكم وتحيتي |
تسير بها عبر الأثير غرائبه |
وإنى على شوق لرؤياك نايف |
سلمت وحب الصدق تزكو مذاهبه |
ولو أنها تشفي التهاني متيما |
لحبرها عبر الصحائف كاتبه |
ولكنه لا يشتفي القلب إذ نأى |
محب سوى تحدى إليه نجائبه |
وتسعى إليه الذات سعيا يريحها |
فيرتاح من شجو المعاناة ساربه |
لتبصر عين ما يسر بنظرة |
ويهنأ قلب دافع الحب شاعبه |
لك الأجر مما تشتكيه مثوبة |
وصحة جسم عاش في العز صاحبه |
سلمت فلا تشكو وعدت لنا ولا |
شكوت بفضل الله ما خيف جانبه |
ولا زلت في خير من الله مغدق |
تفيض به آلاؤه ورغائبه |
وبعد الفراغ من القصيدة وما علق به سموه، استأذن الشيخ/ عبدالرحمن الرويشد بإلقاء قصيدة في المناسبة كانت جميلة فطلب الدكتور فهد الحارثى قصيدتي من سموه للنشر إذ كانت هي الأصل وبخط اليد الذي لم يكن واضحا حيث كتبتها في الطائرة فأذن سموه وطلبت نسخة منها فأفضل إلي بها ونشرت في جريدة الوطن على أخطاء طباعية وقد استمر مجلسنا لدى سموه من الساعة السادسة وحتى الثامنة مساء وكأنه دقائق لطيب تلك الجلسة وعذوبتها، وجميل ما يدور فيها وهل تجد إلا الجمال والكمال في مجلس سموه وقد اعتدنا هذا قبلا من سموه في مجالس عدة في المملكة العربية السعودية، ولكنه وفي سويسرا وفي جنيف منها يمتاز بخواص عدة، منها أننا أمام سموه في هذا البلد الغريب والبعيد عن الأهل والوطن، نحس أننا في الرياض بين القوم والأهل وسموه هناك ذاك كله، ومنها أن حديث سموه وهو الأديب فطرة وتربية واكتسابا، وهو المجرب خبر الحياة عن عميق تجربة وثاقب رأى، وراجح عقل وصفاء عقيدة، قد أفاض علينا شيئا من تجاربه في الحياة إذ أخذ يتحدث بما يتناسب والحال والساعة والمستقبل، فيقعد إجمالا ويفصل بسطا، بما يجلي الكوامن ويكشف المبهم ، ويجعل المرء على بينة من أمره، فلا تجتره عاطفة ولا يلج فيما تشاجرت به الأهواء، وتشاحت به الرغبات، ومن كنايف صامتا أو متحدثا، وحال ما كان الحديث متداولا دخل إلينا/ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، في زي وهيئة كدت أني لا أعرفه بها وقد خضب لحيته بخضاب أحمر قانٍ وارتدى قبعته التى تذكرنا في علماء وفلاسفة الإسلام عصر ما قبل انحطاط المسلمين وبعد ذلك الحديث الندي الشجي من لدن سموه استأذنّا فخرجنا وطلبت أبا عبد الرحمن الظاهري لمحادثته وخلال ذلك الحديث جاء إلي الشيخ/ محمد بن عبد الله المبارك وقال: إن سموه كلفني بإبلاغك أن الفندق والسيارة ومستلزمات إقامتكم على حساب سموه فقلت مع الشكر وعظيم الامتنان خيره سابق ولو أبلغت سموه أننا قد دفعنا تكلفة الفندق طيلة بقائنا في جنيف حين كنا في الرياض وأما السيارة وسائقها والمعرف فنحتاج إليه مع الشكر, فدعا لنا بسيارة أوصلتنا إلى نزلنا وبتنا ليلتنا في فندقنا وفي الصباح من السبت 21-2-1423هـ خرجت وصاحبي وكان المطر غزيرا والبرد شديدا إلى محطة القطار ولم نحسن كيف نأخذ بطاقة الصعود لنذهب إلى مدينة (لوزان) فقال الرفيق، اللهم, ارزقنا عربيا، فأجابنا من جوارنا عربي بقوله: السلام عليكم وكان مغربيا ففرحنا وقلنا نريد السفر إلى لوزان، ولا نعرف كيف نسافر ولا كيف نأخذ بطاقة السفر، فسار معنا الى آلة أعدت لهذا الشأن، فأدخلنا إليها نقودا فخرجت منها بطاقتان لي وصاحبي فسار معنا إلى عربة القطار وبيّن لنا ما نصنع فركبنا وسار القطار بموعده المحدد، واجتزنا من المزارع والضواحي التي أودعها الله من جمال الطبيعة ما أودعها، وكان المطر هاطلاً وكانت الساعة الحادية عشرة ظهرا في جنيف ووصلنا لوزان ونزلنا الساعة الثانية عشرة إلا عشر دقائق وأخذنا نتجول داخل أسواق ومحطة القطار إذ لم نستطع الخروج لشدة البرد وغزارة المطر، وهناك شاهدنا ما نحمد الله على أن طهر بلادنا ومجتمعنا منه وإنها لنعمة كبرى، فهل نعقلها، وهل نحافظ عليها؟؟ ليت من لا يعلم يعلم، ومن لا يعقل يعقل؟حفظها الله علينا ووقانا ضدها، وقد ضاقت المحطة بنا على سعتها واجتوتنا الأرض، نريد العودة إلى فندقنا، فتعبنا إذ لم نعرف كيف نعود؟ ولا كيف نتغدى؟ لما نخشاه من المحاذير، وبعد لأي التقينا بشابين عربيين مغربي ولبناني يدرسان هناك في المدارس المفتوحة، فطلبنا منهما أن يبينا لنا الأكل الذي حددناه فذهبا معنا واختارا لنا الأكل الذي عدمه خير من تحققه، ولكن الحاجة ملجئة، وكادا يدفعان القيمة لولا الإصرار الشديد من قبلنا، وقد رفضا المشاركة فودعانا وانصرفا إلى دراستهما، وبعد الغداء وما أسوأه؟ أخذنا نبحث كيف نركب القطار، وقد أخذ منا البرد مأخذه فوجدنا شابا عربيا جزائريا اسمه كمال نوني يدرس الماجستير في الاقتصاد يعمل حال فراغه بائع جرائد وصحف، وكان وقت اغلاقه المحل، فخرج معنا إلى مقهى وتناولنا وإياه الشاي الأخضر وهدانا كيف نركب، فركبنا الساعة الثانية والنصف بتوقيت سويسرا وعدنا من حيث جئنا وحال ما هبطنا من القطار وبينما كنا نسير قاصدين الفندق سلم شاب من جوارنا واحتفى وكان يحمل حقيبته على ظهره فهش كل منا الى صاحبه وعلى حد قول الشاعر:
|
وذو الشوق القديم وإن تعزى |
مشوق حين يلقى العاشقينا |
فعرّف باسمه وأنه عبد الله بن سعود السياري يدرس في بريطانيا في كامبردج، جاء برحلة إلى سويسرا حيث أمامه ثلاثة أيام عطلة، وعرّفناه باسمينا فعرفني لمعرفته بالمهندس/ خالد الغزى ابن أخي الشيخ/ عبدالرحمن وكان زميلا له في الجامعة، فاحتفى وأكثر مشكورا، فطلبت منه مرافقتنا في الفندق، فاعتذر بأنه حجز قبلا، ولكنه وعد أنه سيصحبنا في التجوال، وفي الساعة الرابعة وحال خروجنا من الفندق وقد وعد بمرافقتنا في تنقلنا وجدنا سيارة أمر سموه بها وبسائقها تنتظرنا أمام الفندق فاتفق هذا ومجيء السيارة فركبنا معاً وكان قائد السيارة خريتا عالما في سويسرا حقيقة العلم لا يخفى عليه منها شيء، وهو فلسطيني الأصل سويسري الجنسية يسكنها منذ أمد هو وأخوه ووالداه وعوائلهما واسمه عماد بن محمد الحاج، واسمه السويسري (جيمي) وبحق إنه لخريت في سويسرا وفي فرنسا فأخذ بنا الثلاثة هو الرابع فينا ومررنا بمطعم عربي نظيف جدا فتغدينا معاً ومنه خرجنا بتجوالنا في مدينة جنيف القديمة، وكانت فخمة المباني متينتها، فأطلعنا على معالمها وأزقتها الضيقة الجميلة، ومبنى البرلمان وأسواقها الشعبية وجئنا على ما هو قديم فيها وقد رصفت أزقتها بالحجارة فلا تكاد تجد حبة رمل غير هذه الأزقة المرصوفة إلا وتجده أخضر، وكيف لا، وكل بناء من الحجارة في البيوت والعمائر تجد الخضرة تكسو حيطانه، لما نبت من العشب والشجيرات في الفواصل بين الأحجار، وكثير من حدائقها القديمة تجدها معلقة على تلال مرتفعة، أو أن الحديقة أقيمت على ارتفاع أربعة أمتار بالحجارة المنضودة، ثم قامت الأشجار من هذا العلو بأحجام مختلفة جدا فخامة وسموقا، ولا تكاد تسير في جنيف إلا إما على طريق مرصوف بالحجارة الجميلة أو مسفلت أو على فنون من النباتات والزهور والأشجار، فسبحان من أودعها من أسرار الجمال ما أبدعه، وقد عدنا إلى نزلنا الساعة السابعة غروبا بتوقيت سويسرا، ولما شاهدته وصاحبي في لوزان مما لا يحمد جاءت هذه القصيدة:
|
|
ما الناس يا صاحبي في طبعها الناس |
أرض الإباحات أقذار وأرجاس |
كم ضلت الناس في سمع وفي بصر |
أعشى البصائر يا لله إدماس |
كم يخدع المرء في خضراء دمنتها |
وما درى أن عرق السوء دساس |
ما بين أوبائها أصلا ومكتسبا |
يبقى الضحية، إن القوم أجباس |
كم تحدس الشاة فيهم لا يغار لها |
منهم على عرضها في الجهر أحراس |
قوم أضل من الأنعام معتقدا |
لهم إلى الشر إرقال وإبناس |
يسعون في المال سعيا لامثيل له |
لكنهم عند صون العرض أنكاس |
كفر الأصالة أسمى في طبيعته |
من كفر مومسة في عرضها جاسوا |
لاحسن في فاضل الاثنين يرفعه |
لكنه لم يكن في العرض ينداس |
قد استباحوا حمى الأعراض وانهتكت |
أستاره وغشى الأبصار أدلاس |
وكل متعة محذور تعود أسى |
ومتعت الطهر فيها الخير ينقاس |
ولا أعمم قولي حين أبعثه |
لكل قوم تقاليد وقداس |
ليست (جنيف) ولا (لوزان) بغيتنا |
ولا (قويير) ولا (طونو) و(أنماس) |
لو شاق عينك منها حمر أردية |
فالداء يضمره لُُبس ولبّاس |
تالله ماذقت أنسا في مرابعها |
ولا إلى القلب فيما ذقت إيناس |
ليلي طويل فهل لليل من فرج |
لا يقلع الليل حتى يقلع الياس |
بقيت والليل في هم وفي قلق |
أما النهار فبالآهات جواس |
لولا الذي حلها والظرف الجأه |
إن الضرورة في الأحكام مقياس |
ما جئتها سائحا كلا ولا خطرت |
مني على البال، مهْ فالعذل إتعاس |
لولاك يانايف ما جئت زائرها |
شفاك من حكمه في الكون قسطاس |
عد سالما لاشكوت الدهر ترحتها |
ما تشتكيه تشكت منه أنفاس |
لولاي أحكم نفسي في تتوّقها |
لفارقت جسمها والناس نُعّاس |
فيم الإقامة في أرض يغيب بها؟ |
صوت عليه زكت روح وأنّاس |
دقات قلبي على إيقاعه خشعت |
كأنما هو في الترجيع إبساس |
صوت المآذن يسليني وينعشني |
لا في النواقيس إذ في تلك إفلاس |
عنها لنا في بلاد المجد منتجع |
ترابها المسك عندي بل هي الماس |
وما علي بمن أعمت بصائرهم |
تلك الخوادع إذ للسقط أجناس |
فلا أميل إلى لهو ولا طرب |
ولا أميل الى ما يجمع الكاس |
يعوضني عن بحيرات بها سجرت |
سراب نجد ففيه العز والباس |
وعن (سليفا) لنا في نجدنا نجد |
ربى المعالي بها فخر ونبراس |
وعن (فركلا) طويق المجد منتصبا |
وفي السراة لنا عوض ولو قاسوا |
وعن قيان تغني في مسارحها |
حمائم الأيك والألحان أجراس |
وعن شرابىَ من (أفيان) باردة |
يعوض شربيَ منها إذ هي الآس |
سقى حماك ربا نجد مرابعنا |
مرابع المجد هتان ورجاس |
ودام أمنك محفوظا ودام لها |
أنس الحياة فداها الروح والناسُ |
ومن الغد وفي يوم الأحد 22-2- 1423هـ وتأكيدا لما أمر به سموه يحفظه الله جاء إلينا في الفندق الشيخ/ محمد بن عبدالله المبارك ولمّا لم يجدنا كتب رسالة نصها (بسم الله الرحمن الرحيم فضيلة الشيخ: عبدالعزيز بن محمد الغزي سلمه الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أرجو من الله أن يكون فضيلتكم بأتم صحة بتكليف من سمو سيدي الأمير نايف بن عبد العزيز يحفظه الله حضرت إلى الفندق لإحاطة فضيلتكم أن سكنكم على حساب سموه الكريم وجميع مصاريف السيارة اللازمة لكم أرجو الإحاطة وفقكم الله مع تحياتي، أخوكم محمد بن عبدالله المبارك 22-2-1423هـ) وكنا قد خرجنا قبل مجيئه الساعة العاشرة صباحا بتوقيت سويسرا إلى جهة جبال (ساليفا) وجزء من هذه الجبال يطل على جنيف من الناحية الجنوبية وهو في حدود فرنسا ومررنا بنهر (الآرف) المتجه إلى الغرب ثم خرجنا من حدود سويسرا إلى فرنسا والفاصل بينهما شارع فقط والمركز الامني واحد جهة منه لفرنسا وجهة لسويسرا، ومررنا مرة أخرى بنهر (الآرف) حال جريانه في فرنسا وهو ينبع من منطقة الجبل الأبيض في فرنسا على حدود ايطاليا ثم دخلنا مدينة (انماس) الجميلة ثم منها إلى بلدة (دوفين) على الحدود مع سويسرا ثم اجتزنا من بلدة (سيي) وهى جميلة جدا كأنما هي لوحة فنية بل هي أجمل، ثم منها إلى (ايفاور) مدينة أثرية من القرون الوسطى وقد حازت على جائزة أنظف وأجمل قرية في أوروبا، وقبلها مررنا من جانب بحيرة (ليمان) التى هي بحيرة سويسرا فتوقفنا في بلدة (أيفور) السياحية، وأيفور معناه العاج، ونزلنا إلى مطعمها النهري الاثرى الفخم، وتناولنا غداءنا في يوم بارد جدا لم نستطع الجلوس خارج المطعم ونحن في فصل الصيف، وكنت مرتديا مشلحي الشتوي في الهيئة السعودية الكاملة مما لفت أنظار الناس إلى هذه الهيئة، وكانت الساعة الحادية عشرة والنصف وخرجنا من المطعم الواحدة ظهرا بالتوقيت السويسري، فوصلنا (طونو) الساعة الواحدة وعشر دقائق ومنها إلى فندق ومركز الاستجمام والعلاج في الماء الطبيعي في فندق (أيفيان) الإمبراطورى الأثري والذي تزوج فيه شاه إيران، حيث تناولنا فيه الشاي نحن الأربعة عبدالعزيز بن محمد الغزي ومحمد بن سعود الحمد وعبد الله بن سعود السياري وقائد السيارة عماد بن محمد الحاج، ومنه خرجنا إلى بلدة أثرية بالقرب من الفندق على البحيرة، وكان فيها سوق قائمة أشبه بالأسواق القديمة لدينا ويقول المعرف إن هذه السوق تقام كل يوم أحد من الأسبوع يؤتى إليها ويعرض فيها ما كان من المصنوعات اليدوية القديمة ولضيق الوقت لم نتوقف ونسي المعرف اسمها، فاستمر سيرنا على ضفاف البحيرة إلى جنيف ووصلنا فندقنا الساعة الرابعة وودعنا أخانا عبد الله بن سعود السياري حيث يتهيأ للسفر إلى بريطانيا، وفي الساعة الخامسة ذهبنا لزيارة سموه وكان سمو الأمير سعود بن نايف لا يفارقه طرفة عين ولا تراه إلا مبتسما، وتلك هي البنوة الصادقة البارة، والأصالة المتأصلة العريقة، وقد حضر إلى سموه من حضر للسلام والاطمئنان على صحته، ومنهم من جاء للسلام ولشكوى الحال فحقق يحفظه الله الطلب إذ سمعته يأمر لهذا بكذا، وللآخر بكذا، ومنهم من يحيل أمره إلى الداخلية لدراسته، وهكذا سموه وفي ثاني أسبوع من نقاهته بعد العملية الجراحية وهو في سويسرا في جنيف نراه وكأنه في مكتب سموه لا يمل ولا يسأم سدده الله وأعانه، وإذا كانت هذه حالته وهو في وقت العملية, وفي ثاني أسبوع منها وفي أيام النقاهة يستقبل مثل هؤلاء ويسمع لهم، فهل تراه يستمتع في أجازة أو يجد راحة، وهل يجوز أن نثقل على سموه خاصة في مثل هذا الوقت من العملية, ليت القوم يعلمون؟ وليتنا ندرك نعمة الله علينا لنشكره حق الشكر، وقد استهل سموه حديثه بعد طرائف ومواقف استعرضت، استهله بشكر الله والثناء عليه، وأن العافية لا يعدلها شيء، وأن الإنسان لضعفه لو أرق ليلة لمرض لدفع بعض ما يملك بل كل ما يملك لراحته وصحته ونومه، ثم قال: الإنسان العاقل هو من يستفيد مما يمر به من مرض وألم ونحوهما، بحيث لا يظلم، ولا يتعالى، ويقدر نعمة الله، ويتذكر قدرته وأنه مهما كان الإنسان قوة فهو ضعيف أمام أقدار الله سبحانه وأن عليه أن يحمد الله ويشكره، وبحق فما أحلاها وأجملها لحظات نستمتع فيها في ظلال حنوه، ولطف سموه، وهى كلمات نابعة من القلب، وكل ما كان عن نايف بن عبدالعزيز فهو من القلب، وبعد جلسة كريمة استغرقت قرابة الساعتين مرت لخفتها وأنسها وكأنها مرور طيف حبيب، استأذنا لوداع سموه وقد قربت العودة الى المملكة العربية السعودية، فقال يحفظ الله (قومني أقوم) يريد أن يعتمد واقفا للوداع وهو حديث عهد بعملية، لا جلس لسوء، فقلت نودعك جالسا حفظك الله وحقق لك الشفاء، وعدت إلى محبيك طيبا، فقبلت وصاحبي جبينه وأنفه وانصرفنا شاكرين كما ودعنا صاحب السمو الملكي الأمير/ سعود بن نايف وشكرنا لسموه ما منحه الله من كريم الأخلاق ونبل الصفات التى أتمنى أن يتأسى بها الكثير منا، كما هنأته على ما أكرمه الله به من البنوة السامية والمبرة الصادقة، والتواضع الكريم، وتلك أسمى الصفات وأنبلها لمن وفقه الله إليها، وفي يوم الاثنين 23-2-1423هـ خرجت الطيور من وكناتها في أشكال متعددة ومتنوعة وهي تحوم في الجو استبشارا بأن ظهرت الشمس وخلا لها الجو منطلقة حيث شاءت، وتلك هي حالة الناس كذلك إذ بقينا من يوم الجمعة 20-2-1423هـ وحتى صباح يوم الاثنين 23-2- 1423هـ لم نر طائرا حائما في الجو لغزارة المطر، ولهذا وفي الساعة العاشرة صباحا خرجنا من نزلنا وركبنا سيارتنا وسرنا من الخط السريع المتجه إلى لوزان التى سبق وأن ذهبنا إليها من خلال القطار، فمررنا من طريق المزارع الجميلة على (بيرن) عاصمة سويسرا من مقاطعة جنيف ثم منها إلى مقاطعة (الفود) وعاصمتها (لوزان) ومن ثم (ديفون) وهي بالقسم السويسري الفرنسي وفيها قصوربعض الأثرياء السعوديين ثم مدينة (سانسيرك) وهي على قمة جبل من جبال (الجورا) مكان للتزلج قسم منها فرنسي وقسم سويسري واسمه (جينوليي) وكنا نسير من جوار مزارع العنب بسفح جبل (الجورا) من الشرق فنشاهد جبال الألب إلى الشرق منا ونحن نسير على الطريق السريع فوصلنا لوزان للمرة الثانية الساعة الثانية عشرة والنصف بتوقيت السعودية ظهرا، وحدث وقل عن جمال الطبيعة ولا حرج غير آثم ولا مبالغ، ثم علونا من خلال الطريق السريع على قمم جبال (الجورا) التي كانت تسايرنا واخترقناها من أنفاقها، وكانت بحيرة جنيف إلى اليمين منا فتوقفنا على مشارف (فيفي) الواقعة على ضفة البحيرة (ليمان)، وجبال الألب أمامنا رؤية البصر المجردة إلى اليمين الشرقي منا وقد اكتست بالأردية البيضاء من الثلج والسحب تمور تحت قمم الجبال، وبعد (فيفي) وصلنا الى منطقة (شاتل ساندنيس) غابات وثلوج ومزارع وجنان لا يبلغ الوصف كنهها، ثم إلى مدينة (بولاّ) وصلنا الساعة الواحدة ظهرا بتوقيت السعودية الثانية عشرة بالتوقيت السويسري و(بولا) هذه مركز تجاري وهي مركز المزارع المحيطة بها وفيها مررنا ببرج البلد برج قديم سامق شاهد على طبيعته المتينة الجميلة، ومن هذا المركز وصلنا إلى بلدة (قويير) بلدة أثرية مبانيها من العصور الوسطى على هضبة مرتفعة جدا عن سطح الأرض تحيط بها جبال الألب بأرديتها الثلجية البيضاء الجميلة ودخلنا إلى قلعتها فرأينا ما فيها من عجائبها كما شاهدنا صورا فيها لعدد من ملوك هذه القلعة، ومنها خرجنا إلى مطعم القلعة (أي شاليه) وهو مطعم نضيف جدا وجميل جدا فتناولنا الغداء فيه حيث صنع أمامنا وخرجنا منه الساعة الثالثة بالتوقيت السعودي الثانية بالتوقيت السويسري قاصدين بلدة (فاثران) وكانت جميلة وأصح البلاد التي مررنا بها رئيا، وأحسنها جوا، وأطيبها منظرا ثم مقاطعة (فيربورج) ومعناها البرج الحر وهي تعيش لغتين ألمانية وفرنسية، ومنها اجتزنا إلى مقاطعة (منتتريد) وعاصمتها (بيرن) وفيها ضاحية اسمها (بيت لحم) وسرنا في ضواحي (بيرن) وتوقفنا عند الشلالات المدهشة العجيبة، ومنها دخلنا إلى مطعم (موبيك) للراحة واحتساء الشاي فما شعرنا إلا بشخص يسلم بلسان عربي بزي عمال المطعم ويرحب فسألناه: أعربي أنت؟ فقال نعم ويمني الجنسية فطلبنا منه الشاي فأحضره وكاد لشدة كرمه أن يسدد القيمة لولا إصرارنا فقبل على مضض، وقال إنه من قبيلة عبس اليمنية وأنه جاء للدراسة وتعلم الفندقة، فودعناه وخرجنا الساعة الخامسة إلى مسجد (بيرن) الجامع الوحيد فيها فصلينا صلاتي الظهر والعصر جمعا وقصرا، ثم انطلقنا منه عائدين إلى جنيف مجتازين من مدينة (مونترو) وكانت مونترو جميلة جدا يعجز الوصف أن يلم بها وتقع على حافة بحيرة جنيف من الناحية الشرقية ومن هناك شاهدنا فندق ( فيكتوريا) شاهقا في جبال الالب وفيها مشفي (لابريري) المنشأ قنتها والذي يؤمه الكثير من الأثرياء كبار السن ليأخذوا مصلا - وكما يقال - يعيد الحيوية لطالبها، وأيهات أيهات؟ وقد اجتزنا من (مونترو) إلى (فيفي) فمدينة (صفورين) فشلالات صفورين الهادرة فلوزان، فقلعة (أتسي) على البحيرة وقد توقفنا على البحيرة الساعة السادسة وعشرين دقيقة والشمس آخذة إلى الغروب جنوحا مرسلة أشعتها إلى البحيرة و إلى الثلوج التى تكسو الجبال وكأن قنانها شيوخ متزملون أردية بيضاء بين جلوس مرتدين أردية سوداء حيث بدأ الثلج ينكشف عن الحجارة السوداء، فما أجمله من منظر حين أرسلت الشمس أشعتها وانكسرت مرتدة إلى قمم الجبال مولدة منظرا جذابا إلى حد يتراءى لك معه وكأنك أمام منظر سحري، وقد عدنا الى جنيف الساعة الثامنة حيث الخلود للنوم بعد سفر طويل قصر طوله جماله ومتعته.
|
وفي يوم الثلاثاء 24-2-1423هـ خرجنا الساعة 10 صباحا في توقيت سويسرا وذهبنا الى فرنسا آخذين المسار بينها وبين سويسرا متجهين الى الجنوب فمررنا بمدينة قصور الأثرياء السعوديين في القسم الفرنسي الى الشمال من جبال (سليفا) ثم وصلنا بلدة (كولنج) التي تحيط بها المزارع وهي من الريف الفرنسي على المناطق الحدودية مع سويسرا فوصلنا إلى (أرشاوب) وكلها في الريف والمزارع وفي طريقنا إلى مدينة وبحيرة (أتسى) كنا نسير ولا يفصلنا عن ايطاليا سوى الجبل وهي إلى الشرق منه واقرب مدينة إيطالية هناك (أوستا) وخلال هذا السير اجتزنا من بلدة (لوكريزي) الساعة الحادية عشرة والنصف ظهرا بالتوقيت السعودي فتوقفنا عند جسر نابليون الأثري والذي بناه عندما عزم على غزو إيطاليا عام 1839م نصبه فوق واد سحيق ليعبر منه الجيش بخيله ورجله ومدده، وقد وصلنا (أتسي) الساعة الثانية عشرة بالتوقيت السعودي، الحادية عشرة بالسويسري وكانت جميلة تحيط بها المزارع إحاطة السوار في المعصم، كما تحيط فيها الجبال الشاهقة المكسوة بالثلج فوصلنا البحيرة الساعة الثانية عشرة والنصف بالتوقيت السعودي، وأخذنا بعض الراحة على ضفة البحيرة جلوسا ثم قمنا بالدوران حولها من اليمين ومن ثم ذهبنا إلى فندق (أتسى) الإمبراطوري المجاور والمطل على البحيرة الساعة الواحدة والنصف بالتوقيت السعودي فجلسنا في شرفاته المطلة على البحيرة وبعد الغداء وفي تمام الساعة الثالثة بتوقيت السعودية خرجنا من المطعم في جولة حول البحيرة واجتزنا من ضاحية (فريدولاك) المطلة على البحيرة من الشرق واستمر بنا السير على طريق وعرة متعرجة ضيقة جدا حتى وصلنا إلى قمة جبل (فوركلا) مجتازين قبلا من ضاحية (تالوار) وقمة (فوركلا) هذه هي منطلق الأطباق الطائرة والمراكب الشراعية الجوية والتي كثيرا ما نراها تعرض من خلال الفضائيات عرضا بهلوانيا، وهناك أخذنا راحة ممتعة في مطعمي قمة الجبل محادثة ومشاهدة لتلك المظلات الطائرة (البارا بنت) و(الدلتا) أجنحة الطائرة وبعد استمتاع طويل مؤنس، عدنا إلى فندقنا الساعة الثامنة مساء حيث أخلدنا للنوم وفي يوم الأربعاء 25-2- 1423هـ خرجنا الساعة العاشرة صباحا بالتوقيت السويسري الحادية عشرة بالسعودي وتوقفنا في المصعد الجبلي (التلفريك) وصعدنا الساعة العاشرة والنصف صباحا ونزلنا في محطة المصعد العلوية ثم سرنا على الأقدام حتى قمة الجبل حيث مطعم (الحصان) في قمة جبال (ساليفا) فاسترحنا في المطعم الجبلي الجميل من الساعة الحادية عشرة والنصف حتى تناولنا الغداء الساعة الثانية ظهرا وكنا في ذلك المطعم كمن هو في طائرة نشرف على جنيف وضواحيها وجبالها ومقاطعتين فرنسيتين هما (العين) و(سافوا) ومدينة (أنماس) وضواحيها بكل وضوح ثم عدنا إلى فندقنا الساعة الثالثة واسترحنا ساعة بعدها أدينا صلاتي الجمع ثم خرجنا من فندقنا إلى الحديقة الإنجليزية الواقعة على ضفة البحيرة وخلال سيرنا التقينا بشخص بدأنا بالسلام فتم التعارف وإذا هو إيراني متخصص في اللغة العربية يتحدثها بطلاقة متقنة، واسمه (فارهاد) فسرنا ومعا حتى جلسنا في الحديقة على ضفة البحيرة فدار الحديث حول أهل السنة خاصة ما يقال عن الوهابية فيها وحول الشيعة لتوضيح الفارق وكشف اللبس في مصطلح الوهابية الذي وضعه الأعداء وأنها هي روح السنة كما تطارحنا بحث الأخطاء في الإعتقادات والأفعال التعبدية لدى الشيعة وتم إيضاح تلك الفوارق بين الطائفتين السنية والشيعية وكان الرجل متحدثا لبقا وكذا الدهاء؟، ثم خرجنا من حديثنا هذا إلى الحديث في الأخطاء الشائعة في اللغة العربية فوجدناه متخصصا متقنا، وعمله كما يقول تاجر سجاد إيراني يدوي ومما بحث من الأخطاء كلمة (انتهاك حقوق الإنسان) وأن التصويب فيها وكما يقول (انهتاك حقوق الإنسان) مبينا انه إلى الفعل الثلاثي المجرد (هتك) كما عرجنا على معاجم اللغة وأن كلمة (قاموس) هي (لجة في البحر) أعمق مكان فيه، كما أخبرنا أنه جاء الى السعودية مرات عدة كان أولها زمن الملك فيصل رحمه الله، عام 1392هـ وأنه امتنع من محادثة امرأة خشية أن يقع في مشكلة يحكم عليه بسببها بالحكم الشرعي وهكذا وبعد ساعة أو تزيد من الحديث المتنوع افترقنا على وداع وكل يهيئ نفسه ويلملم أمتعته حيث قرب السفر عودة إلى الوطن الحبيب.
|
وفي ليلة يوم الخميس 26-2- 1423هـ بتنا في فندقنا على انتظار غد وما أطوله حيث موعد الإقلاع من سويسرا إلى السعودية الساعة الثالثة إلا عشرين دقيقة، بعد الظهر بتوقيت المملكة، ومنذ الصباح وفي الساعة العاشرة جاء إلينا معرفنا فخرجنا من الفندق وأخذنا أمتعتنا وقمنا بجولة ثانية في مدينة جنيف فتناولنا وجبة الفطور في مطعم جميل جدا ومنه خرجنا فمررنا بالمسجد الجامع الوحيد في جنيف وكان واسعا جميلا متينا فصلينا فيه صلاة الضحى ومن ثم واصلنا التجوال حتى حانت صلاة الظهر فصليناها في المسجد جماعة ثم صليت وصاحبي العصر سفرا ومنه انطلقنا الي المطار، وما أبلغ الاشتياق وأشده وقد قربت العودة الي الوطن، فودعنا صاحبنا العماد محمد الحاج أمام استعلامات المطار وشكرنا له لطفه وسعة خلقه كما شكر هو على ما تصوره في صاحبيه، وما أجملها لحظة حينما زلفنا إلى الطائرة وأخذنا مقاعدنا، عندها أحس كل منا أنه في السعودية وإن كان لا يزال في مطار سويسرا.
|
|