المصطلحات في عالمنا العربي نتعاطاها على مزاج الأهواء السياسية وإيديولوجياتها، ليتحوّل المصطلح إلى رمز شر أو خير: بُعبع مخيف أو ملاك طاهر، فتضطر أن تتخذ موقفاً إما معه أو ضده .. والويل لك إن حاولت أن تتحصَّن بالحياد لكي تحلل مفهوم المصطلح وتاريخه وتطبيقاته الواقعية.
.. فما تضخُّه الصراعات السياسية من شعارات وعواطف تدفعك قسراً لرفض التحليل .. ومنها مصطلح العلمانية..
في البداية من المهم التذكير أنّ العلمانية ليست منهجاً ولا مذهباً فكرياً، كما يحاول البعض أن يصوِّرها أو يظنها، بل هي رؤية جزئية للعلاقة بين الديني والسياسي، أو هي موقف جزئي لتحديد العلاقة بين المجالات الدينية والدنيوية..
والمفكِّر عبد الوهاب المسيري الذي يُعَد أكثر من اشتغل بهذا المصطلح، عرّف نوعين من العلمانية: الأولى هي العلمانية الجزئية: وقال إنها رؤية جزئية للواقع .. تذهب إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة، وربما الاقتصاد .. وهذه الرؤية تلزم الحياد حيال المجالات الأخرى من الحياة .. والثانية هي العلمانية الشاملة: وهي رؤية شاملة للواقع تحاول بكل صرامة تحييد علاقة الدين والقيم المطلقة والغيبيات بكل مجالات الحياة..
وفي أيامنا هذه نجد مثال العلمانية الشاملة في فرنسا، حيث يتم فصل الأشكال الدينية عن مؤسسات الدولة، ولعلّ أبرز مثال إعلامي لها هو منع استخدام الرموز الدينية في مدارس الحكومة، مثل ارتداء الحجاب (إسلامي) أو قلادة الصليب (مسيحي) أو وضع القلنسوة على الرأس (يهودي) .. موقف فرنسا يمتد إلى أوربا، فقد سبق اعترض الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك على مسودة الدستور الأوربي لمجرّد أنه أشار في مقدمته إلى كلمة المسيحية كجزء من تراث أوربا التاريخي.
وبالمقابل نجد أنماط العلمانية الجزئية كما في بريطانيا، حيث تعتبر المؤسسات الدينية جزءاً من الدولة التي تمنح الدعم المادي لدور العبادة والمؤسسات الدينية كجزء من المجتمع المدني .. ونجد في الشرطة والجيش البريطاني من ترتدي الحجاب أو من يرتدي العمامة السيخية مع إطلاق اللحية، رغم أنّ النظام العسكري يُجبر على توحيد الزي والمظهر لكنه يعطي استثناءات للمتدينين .. وآخر المظاهر كان قبل أسابيع في حفل تتويج باراك أوباما للرئاسة الأمريكية حين تم افتتاح أهم حدث سياسي للدولة بخطاب ديني يتلوه رجل دين..
وأياً كان نوع العلمانية فهناك أنماط مختلفة في ممارستها .. فهناك العلمانية الديمقراطية والمستبدة وما بينهما .. الأولى تستند إلى موقف الغالبية والحقوق، ويمكن أن يتم تعديلها وفقاً لذلك، ففي منع الحجاب في المدارس الحكومية الفرنسية، أُعتُرض عليه في بعض المحافظات باعتباره ليس رمزاً بل واجباً دينياً يمارسه قطاع كبير من سكان المحافظة المسلمين ومن حقهم ممارسة واجباتهم، وأصدر بعض القضاة أحكامهم ببطلان هذا المنع من ناحية حقوقية .. بل إنّ فرنسا العلمانية تعترض على انضمام تركيا للاتحاد الأوربي بسبب استبدادها ضد الحريات الدينية والقومية! بينما العلمانية المستبدة يتبنّاها نظام حكم لا تعنيه مسألة الأغلبية ولا الحقوق، بل يفرض أجندته السياسية على الشعب وعلى المؤسسات الدينية، كما يحدث في الصين..
إذن هناك أنواع ودرجات ومستويات في تحديد العلاقة بين الديني والسياسي، وبين الديني والدنيوي .. وإطلاق مصطلح العلمانية على أنه نمط واحد مخالف للواقع ومضلل، لأنّ العلمانية ليست رؤية واحدة بل أشكال متنوعة .. وبالتالي، فأساس المسألة الذي ينبغي التركيز فيه، ومنه نتجادل اختلافاً أو اتفاقاً، هو تحديد العلاقة بين الديني والدنيوي، وليس المصطلح الذي جعله البعض فزَّاعة .. فالمصطلح غربي النشأة والظروف حين كانت كافة أشكال السياسة تحت سيطرة الكنيسة أو تتأثر بنفوذها..
بينما في تاريخنا الإسلامي كان هناك تخصص يفصل بين مجالات رجل الدولة (السياسي) ورجل الفقه (الديني) في العصر الأموي والعباسي وما تلاهما في تاريخنا إلى يومنا الحاضر - باستثناء إيران -، ولم نعرف تجربة يُعتدّ بها لولاية الفقيه مثلاً أو لدولة يقودها رجال دين، وبالتالي لم تكن في تاريخنا أزمة تدخل المؤسسات الدينية في السياسة.
فثمة بُعد أساسي في العلاقة بين الديني والدنيوي داخل الدولة الإسلامية، وهي مسألة التخصص .. فهناك تخصصات يستوجب عدم الخلط بينها في المهام في الدين والسياسة والاقتصاد .. الخ. فالمؤسسات الدينية لا تتدخّل في السياسة، لأنّ هذا ليس تخصصها .. وتفاصيل الحياة الدنيوية تكون وفق اجتهادات سياسية ومصالح دنيوية على أساس القاعدة الفقهية أنّ (الأصل في المعاملات الإباحة) المبنية على الحديث الشريف: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)..
لذا فإنّ المفكِّر محمد عابد الجابري رفض تعريف مصطلح العلمانية باعتباره فقط فصل الكنيسة عن الدولة، لعدم ملاءمته للواقع العربي الإسلامي، ويرى استبداله بفكرة الديمقراطية (حفظ حقوق الأفراد والجماعات)، والعقلانية (الممارسة السياسية الرشيدة).
هذا لا يعني أنّ الفقيه الديني ليس من حقه التدخل في المسائل السياسية كفرد مثقف وناشط مُهم يطرح وجهة نظره الشخصية، بل يعني عدم تدخله في السياسة من موقعه الديني كمتحدث باسم مؤسسة دينية أو كمفتٍ يطرح فتوى في السياسة تكون إلزاماً دينياً واجباً، ومن يخالفها يقع في المحرم أو الكفر، ويورط الجماعات أو الأفراد في صراعات دينية أساسها مصالح فئوية سياسية..
وخوفاً من هذا التوريط وهذا الخلط في التخصص، ظهر ليس فقط مفكرون دنيويون، بل فقهاء وأعلام دين كبار، خاصة في لبنان والعراق (بسبب الطائفية)، أمثال محمد مهدي شمس الدين، وإياد مصطفي جمال الدين، من يرى بأنّ العلمانية المخفَّفة هي حماية للدين وللمؤسسات الدينية من الوقوع في ألاعيب السياسة المتقلّبة والتمرُّغ في وحل النزاعات السياسية وفي جرِّ المؤسسات الدينية للصراع بين التيارات السياسية داخل المجتمع، وضروة تنزيه الدين عنها..
إذا كان مصطلح العلمانية غربي النشأة والظروف والملابسات، فإنّ الأجدى بدلاً من الدخول في جدل حوله، أن ندخل في جدل حول المضامين التي تعنينا فيه، وهي التخصص في مناحي الحياة .. ما يخص السياسي وما يخص الفقيه .. وتحديد مجالات الديني والدنيوي (خاصة السياسي)، وتحديد التداخلات والعلاقة بينهما .. لكي لا يكون الخلاف على مصطلح تم تعبئته بالأوهام ورُفِعَ فزَّاعة في وجه المخالفين..
alhebib@yahoo.com