كنت كتبت قبل خمس سنوات عن (نظرية الفسطاطين)، من وجهة النظر الأمريكية التي تزعّمها الجمهوريون في سابقة خطيرة للعقلية الأمريكية، قسمت أمريكا حينها العالم إلى (مع أمريكا) و(ضد أمريكا)، فجاءت ردة فعل القاعدة كأسرع قرار جيوبوليتيكي يتخذه أسامة بن لادن حين قسم العالم إلى فسطاطين: الإسلام والكفر.
ومنذ ذلك التاريخ انشغل كل المعنيين بمجريات الأمور، من الساسة والنخب والجمهور العام، بمراقبة تداعيات نظرية (الفسطاطين) على واقع الناس. ولا أظن أحداً بحاجة اليوم إلى مزيد بيان ليعرف ما عاشته شعوبٌ وشاهدته شعوبٌ أخرى على قنوات التلفزيون من آثار الحروب والدمار والمكائد الرخيصة على الأنفس والممتلكات. والمهم اليوم.. هو أنني في لحظة تأمل جديدة.. طرحت ذات التساؤلات على ذاتي باحثاً عن ملامح التغيرات التي طرأت في واقع الناس شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، بعد مرور خمسة أعوام من الحروب والاقتتال، وكيف هم الناس اليوم؟ مع من؟ وضد من؟.. ثم آثرت أن أعود لمكتبتي الصغيرة وأستل كتابي الصغير الذي أسميته (من أين أُتِينا؟ محاولة لفهم الواقع الذي استعصى) وصدر في العام 1425ه، وضم أكثر من ثمانين زاوية رؤية اجتهادية للإجابة عن سؤال رئيس مفاده كيف تشكلت ثقافة الاختراق لكياننا الثقافي الاجتماعي؟ وقد كانت محاولة متواضعة للتعرف على أهم الثغرات التي ولج منها الطامعون الطامحون في اختراق مجتمعنا والراغبون في النيل من مقدرات الأمم والشعوب سواء منهم من كان من بيننا ومن كان من غيرنا يرقبنا من مكان بعيد. كما قلّبت حينها النظر في جملة من أحوال الناس مع الحرب على الإرهاب، وبدت أمامي اليوم رغبة جادة في إعادة النظر في الأمور بعد مضي السنوات الخمس، وفي إعادة قراءة الأحداث ومحدثيها، وتطوراتها، وآثارها على الكون والحياة فيه، فلا بد أن ثمة أمورا جساما حدثت، وأن جملة من التغيرات والتقلبات قد أصبحت أمرا واقعا، وأن كثيراً من الغيوم قد انقشعت وانجلت الصورة لدى البعض في حين زاد، ربما، (غبش) الصورة عند أقوام آخرين.. وخلاصة الأمر، أني وجدتها متعة فكرية أن أعيد النظر والتأمل من جديد، وأن أحاول التعرف على ما حدث خلال السنوات الخمس الماضية فيما ظننت في يوم من الأيام أنه ذو شأن في صراعنا مع الآخر.. فأين نقف الآن؟ وما الذي جرى تماما؟ وكيف يمكن لنا أن نفهمه؟.. إنها دعوة لقراء الجزيرة الأعزاء أن نبحر معا في لحظات تأمل جديدة، لننظر في أحوالنا من جديد ونقيّم موقفنا من جديد، فما أمتع التأمل والتدبر.. ولنبدأ اليوم بمراجعة ما أحدثته الأحداث في (نظرية الفسطاطين).. فقد ذهب جورج بوش، وذهب معه كل أقطاب نظريته، وجاء قوم آخرون يقولون قريبا مما نقول: إن أسلافهم قد أوغلوا في واقعنا بعنف. وبدأت نظرية (إن لم تكن معي فأنت ضدي) تتحوّل في طريق أظن أنه سيؤدي بها إلى التلاشي، ولكن ربما بعد سنوات خمس عجاف أخرى.. لكن المؤكد، أو أنه المؤمل، على أقل تقدير، هو أن وداعا نظرية الفسطاطين (الأمريكية).. وداعا لا لقاء بعده.. لكن لفسطاطي أسامة بن لادن.. مركبات أخرى يبدو أنها أكثر مضاء من كل مركبات العقلية الأمريكية التقليدية.. فقد وضح جليا خلال السنوات الخمس الماضية أن الأمريكيين قد وقعوا في فخ فسطاطي أسامة بن لادن، حين لم يحسنوا التفريق بين عقلية وعقيدة القاعدة من جانب، وعقلية وعقيدة المجتمع المسلم الوسطي الحنفي من جانب آخر، على الأقل بالقدر الذي كان يجب، وكانت تستدعيه ضرورات المعركة مع الخصوم الحقيقيين، فبدت كثير من أعمالهم وقراراتهم تبدو أو أنها موجهة ضد (العالم الإسلامي)، وضد (المسلمين)، حتى راق لدول غربية كالدنمرك أن تعلن سخريتها من رسول الإسلام، وأصحابه، ولبابا الفاتكان أن يسيء لذات الرسول وللدين الذي حمله للعالمين، دون حسابات لغضبة أمريكية كانت (ضرورية) لتحقيق مصالحهم السياسية والعسكرية في كسب حربهم ضد القاعدة. وبذلك اختلطت الأمور كما يبدو، وهو الأمر الذي لم يحدث لدى القاعدة، ذلك أن (فسطاطي الإسلام والكفر) منهجية رائجة.. ويمكنها البقاء والتطوّر والاستمرار إلى يوم الدين.. طالما أن هناك مسلما واحدا وكافرا واحدا. من هنا، أظن أن القاعدة استطاعت أن تقاوم كل هذه السنوات، وأن تستهوي عقول شباب يافعين من كل مكان في العالم.. لا تعنيهم تفاصيل المذاهب الفقهية.. ولا تشغل بالهم حقائق الحركات الإسلاموية، بقدر ما هم متأكدون أن ثمة (إسلاما) و(كفرا)، فهذه الحقيقة تبدو بالنسبة لهم حقا محضا، والدفاع عن حقوق الإسلام في مقابل سطوة الكفر الظاهرة ليس موضع نقاش أو جدل عندهم. وأرخص ما يقدمه هؤلاء للدفاع عن معتقدهم هو (الروح)، في حين أن (الروح) هي آخر ما يظن الأمريكي الفداء بها من أجل سواد عيون (إن لم تكن معي فأنت ضدي).. هي معركة مستمرة إذاً.. هاهي تتجاوز عامها الخامس دون حسم، ولا أظنها تُحسم هكذا.. فقد ذهب صدام وذهب وراءه آلاف العراقيين والعراقيات، كما ذهب آلاف الأفغان والفلسطينيين واللبنانيين. ولا يزال القادم مخيفا ومثيرا للقلق رغم أنوف الديمقراطيين؛ لأن أسلافهم قد أثخنوا في الأرض بالقدر الذي لا تزال فيه قوى العالم تفقد معه سيطرتها على القرارات السيادية وعلى قوة تسيير الأمور، وأظن أن مثالي السودان وسواحل الصومال شاهدان على تردي القدرات الراهنة على حسم الأمور (عاجلا) كما يقول أوباما وكما يعتقد هو وأعوانه الأخف وطأة على صدور الآخرين. واليوم إن كانت أمريكا تريد، فعلا، أن تدير دفة الصراع لصالحها، فإن عليها أن تجيد الفصل بين الحق والباطل، وبين العدل والجور، وبين الظلم والحق.. وباختصار شديد جدا، عليها أن تجيد (الثناء) على الإسلام المعتدل، وأن (تدافع عنه) وأن (تحميه) من ثلّة من المفسدين من أهلها ومريديها، وأن تُعمل محاكمها لمحاكمة من يسيء للمسلمين المعتدلين، أو للدين الإسلامي الحنيف، وأن ترفع للأمم المتحدة ما يحقق ذلك. عندها ستثبت حسن نواياها، وستحدد - بشكل أكثر مهارة - خصومها، وسيضع جل العالم يده مع يدها في مواجهة الإرهاب وأقطابه وكياناته. وحينها، فقط، يمكن أن تسقط القاعدة فكراً وعقيدة وأنصاراً، ويمكن أن نشهد سنوات خمساً أخرى تنفرج فيها الغمة وتنكشف الكربة، ويعود المجتمع الإنساني ليوجه طاقاته لتنمية واقعه الثقافي والاجتماعي في تمايز إيجابي.. فهل نتعلّم من أكثر أخطائنا الاستراتيجية فداحة على واقعنا الإنساني؟
نائب رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
alhumoodmail@yahoo.com