لم يكن غرض نابليون من نقل مطبعته أثناء غزوته لأرض مصر نقل تقنية النشر إلى مصر، وإنما لتسهيل كتابة أوامره ونواهيه وتهديداته على منشورات يتم توزيعها على المواطنين والمعارضين لوجوده على أرض الكنانة، لكن هذه النقلة التقنية غير المقصودة أوجدت مهنة جديدة اسمها الصحافة في مصر، تحولت مع مرور الوقت إلى عالم وميدان فسيح تكتب فيه الأقلام من مختلف الاتجاهات، ثم صار لكل اتجاه سياسي أو اجتماعي جريدة يعبر فيها عن أرائه وأفكاره ومبادئه.
وهو ما يعني أن الصحافة والنشر كانت في البدء نتاج للسلطة، لكنها استطاعت تجاوز حدود السلطة ومحاذيرها إلى ميادين أخرى، لتظهر قوانين الرقابة ومحاولات الحد من استخدام النشر على الورق للأغراض الأخرى غير الرسمية، ولم يجد ذلك الحصار، فقد نجحت في أحيان كثيرة في اختراق الحظر الرسمي ثم التحليق بعيداً في سماء الفكر المتحرر من القيود..، وفي آخر مآلاتها سقطت في قبضة الاقتصاد وتضاعفت منشوراتها وتم تسخير اتجاهاتها في اليسار واليمين من أجل الربح المادي.
كذلك كان هو الحال مع الإرسال التلفزيوني، والذي بدأ رسمياً، وظل كذلك لفترة طويلة، لكن تطوره المتأخر تسارع بصورة مذهلة في القرن الجديد، ليتجاوز الاحتكار الرسمي في العالم، ويصبح في متناول الأفراد ومختلف دعاة الأفكار والاتجاهات المختلفة، وصار من السهل لأي كان أن يستأجر قناة بث فضائي، يرسل من خلالها مواده الإعلامية، ويستقطب المشاهدين من مختلف الفئات الاجتماعية، وبذلك تحول البث التلفزيوني من قناة رسمية تبث أخبار الدولة إلى قنوات استثمارية تدر الأموال على مالكيها.
أيضاً بدأت شبكة الإنترنت فكرة عسكرية حكومية أمريكية ضمن برنامج الأبحاث المتطورة للدفاع، وأكاد أجزم أن السلطة التي كانت وراء تطورها لم تكن تدرك حجم التبعات والتأثيرات الهائلة التي يحدثها عالم الإنترنت في العصر الحاضر، فالتقنية انتقلت إلى الأفراد، وأصبحت ساحة الشبكة العنكبوتية مهيأة لأن يكون لكل فرد موقع أو صفحة ينقل من خلالها أفكاره ويومياته وأراءه إلى العالم، وهي بكل تأكيد تعد أكبر نقلة في حركة الكلمة في التاريخ، يصاحبها تأسيس أكبر سوق افتراضي للدعاية والتسوق الفضائي...
ينطبق أيضاً ذلك على العلم، فقد كانت المؤلفات تُكتب وتُهدى إلى الملوك والخلفاء، وتُؤلف من أجل خدمة الدول، لكنها في العصر الحديث تحولت إلى خدمة الأفراد، وطريقة مثالية للثراء من خلال براءات الاختراع والشركات العملاقة التي تدفع أكثر من أجل فكرة استثمارية جديدة، أو من أجل نشر كتاب تتحقق من ورائه العوائد المالية..
كذلك نزل الدين رحمة للعالمين، ثم أصبح عاملاً رئيسياًً لقيام دول وإمبراطوريات مترامية الأطراف، شعارها حماية الدين واحتكار تفسيره وتطبيقاته، ثم استثمارها في تحقيق الانتصارات والمكاسب والغنائم، لتكثر بعد ذلك التفسيرات والتأويلات وتظهر الطوائف الجديدة، حتى غدت أعداداً لا حصر لها، ولم تخلو أهداف بعض الرموز من استغلال الأتباع من أجل تكوين الثروات إما من خلال الفروض الدينية والتحكم في دخل مواردها أو تطوير الآراء الدينية و تفاسير الأحلام والفتاوي والاجتهادات الدينية إلى برامج للاستثمار والعوائد المالية المجزية..
أيضاً علمنا التاريخ أن الدول التي قامت على الأفكار العظيمة، قد يختصم أبناؤها على تركة المؤسسين الأوائل، لتتحول المبادئ العظيمة إلى فصول يحكمها الصراع على المال وإرث الإقطاع، وهو ما قد يسلب من مبادئها العظيمة قدسيتها وجاذبيتها ثم يحولها إلى أفكار في متناول الاتجاهات الأخرى، وعرضة للانهيار ثم الزوال..
هكذا هي الأعمال والأفكار الخالدة عبر التاريخ تبدأ من خلال السلطة ثم تنتهي إلى عملات وبضائع وعقارات يتم تداولها وتسويقها في سوق الأوراق المالية.