رحب كثير من المراقبين والمحللين السياسيين بما حواه خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي ألقاه في القاعة الكبرى بجامعة القاهرة بمصر يوم الخميس 11 جمادى الآخرة 1430هـ (4 يونيو 2009م)، مقارنة بالخطابات السلبية والمتطرفة للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش..
...الابن، التي امتازت بالتعالي الأممي للتفوق الأمريكي، واتسامها بلغة الفرض للقيم الحضارية، والتهديد بالحل العسكري وغيرها من عناصر وأفكار مغايرة تماماً لما جاء في خطاب الرئيس أوباما، هذه المقارنة بين الخطابين هي أول (الخلل المنهجي) في الحكم على خطاب أوباما، لأن التقويم العادل لفكرة أو موقف أو خطاب أو أداء أو غير ذلك، لا يكون ب(المقارنة مع الأسوأ)، إنما يكون مع ما يماثله، فالمقارنة لا تكون بين خطابين يعكسان تبايناً كبيراً في أيدلوجيتهما السياسية، وسياقهما الزمني، وواقعهما العالمي، لذا فتقويم خطاب أوباما التاريخي يتم من خلال مناقشة أبعاده السياسية، وتحليل مضامينه الفكرية، ومدى تطابقها مع حقائق الواقع (الحاضر) وشهادات التاريخ (الماضي).
يمكن القول إن الخطاب بمجمله انقسم إلى جزئين رئيسين مع بعض الضبابية في المفردات، الأول تركز في الحديث الواعي عن القيم الحضارية التي تشكل قواسم مشتركة بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الإسلامي، بينما الآخر جاء استعراضاً للمواقف الأمريكية لأهم القضايا السياسية المتعلقة بالعرب والمسلمين، وكأن الرئيس باراك أوباما أراد من تلك القواسم المشتركة أن تهيئ الأرضية الإيجابية وكسر التوجس السلبي لدى جماهير الأمة على امتداد الوطن العربي والعالم الإسلامي، لكي تقبل تبريرات المواقف السياسية للإدارة الأمريكية، التي أعلنها لاحقاً وهو يفتح الملفات الساخنة في المنطقة ويقتحم قضاياها الشائكة. ولأن أوباما رجل محاماة يتقن الخطابة، ويتمتع بخلفية ثقافية عالية وتجربة شخصية عن تاريخ وحضارة المسلمين وقيم ومبادئ الإسلام التي تتجلى في القرآن الكريم، فقد نجح في جذب المستمعين ونيل إعجابهم عندما وظف بعض الآيات القرآنية في مواطن محددة في ثنايا الخطاب، الذي استهله ب(اعتراف) صريح عن توتر العلاقة بين أمريكا والعالم الإسلامي، مشيراً إلى قوى تاريخية تسببت في ذلك، وإلى مساهمة الاستعمار خلال العصر الحديث وحرمان المسلمين من الحقوق والفرص، وأن هذه القوى قد أسهمت في وجود (صور نمطية سلبية) عن الإسلام، وأن جزءاً من مسؤوليته التصدي لهذه الصور، مطالباً أن يتم التعامل على نفس القدر مع الصور النمطية السلبية عن أمريكا، وأنه جاء إلى هنا للبحث عن بداية جديدة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي، استناداً إلى المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل، في ظل وجود قواسم ومبادئ مشتركة هي العدالة والتقدم والتسامح وكرامة كل إنسان، وهذا يفسر استخدامه لكلمة (العنف) بدل (الإرهاب) التي ارتبطت في الذهنية الغربية ب(الحرب على الإسلام)، من هنا يحاول أن يؤسس لعلاقة قوية و(تصالحية) تقنع شعوب العالم الإسلامي ل(تبتلع) مآسي الحروب، التي شنتها أمريكا لفرض قيمها الليبرالية بقوة السلاح على دول عربية وإسلامية، خصوصاً أنه يؤكد أنه لا يمكن لأية دولة أو نظام أن يفرض قيمه ومعتقداته على غيره.
إذاً ب(المجمل) هناك (إيجابية) ظاهرة في حديث أوباما عن القيم الحضارية المشتركة بين أمريكا وعالمنا الإسلامي، غير أن الأهم هو حديثه عن المواقف الأمريكية لقضايانا السياسية، فالمتمعن فيها لا يجد اختلافاً عن عهد سلفه بوش، إلا اللهم في بعض القرارات (التكتيكية)، التي لا تخرج عن صلب الإستراتيجية الرئيسة للسياسية الأمريكية، فحديثه عن التواجد الأمريكي في أفغانستان وباكستان لأجل تحسين مستوى الحياة للأفغان ونفيه إقامة قواعد عسكرية هناك، هو حديث (غير مقنع) واقعياً، فالولايات المتحدة احتلت أفغانستان وفق مشروع إستراتيجي في منطقة آسيا الوسطى حول بحر قزوين تتعلق بامتدادات الغاز والنفط والمد الإسلامي في الجمهوريات السوفيتية السابقة، أما إسقاط حركة طالبان فقد جاء في سياق هذا المشروع لإيجاد حكومة موالية، وهذا يفسر تعزيز الوجود العسكري الأمريكي بآلاف الجنود، خصوصاً بعد أن عادت حركة الطالبان إلى المسرح الأفغاني، وتمكنت من استعادة بعض أجزاء أفغانستان المحاذية لباكستان، فكان لذلك أكبر الأثر في نشوء قوة طالبان الباكستانية، التي دخلت في حرب كسر العظم مع الحكومة الباكستانية الحالية.
الواقع الأفغاني ينسحب أيضاً على الوضع العراقي، فرغم اعتراف الرئيس أوباما أن أمريكا هي من فرض الحرب أي (العدوان على العراق ثم احتلاله)، إلا أنه (برر) الوضع المتردي في العراق بأن الشعب هو الرابح في نهاية المطاف لأنه تخلص من الطاغية صدام، رغم أن (عراق اليوم) من دون سيادة ويتهدده شبح التقسيم، ويفتقر للأمن، ويعيش حالة من القتل اليومي، بعد أن تحول إلى غابة من الأسلحة تنتشر فيها الجماعات الإرهابية والمخابرات الدولية، غير أنه أكد أن القوات الأمريكية لن تبقى في العراق، بل ستنسحب عام 2012م - لاحظ أنه قرب نهاية ولايته الرئاسية -، دون أن يشير إلى قضية القواعد العسكرية، لأن العاقل لا يمكن أن يصدق أن جيوش أمريكا اجتازت المحيطات لمنح العراقيين الحرية وتعليمهم الديمقراطية، وكأنها (جنود الرب) للخدمات الإنسانية، والحرب بدأت أصلاً على كذبة كبرى!.
أما القضية الأهم وهي (قضية الصراع العربي الإسرائيلي) فقد تكررت سلبية الموقف الأمريكي، وثبت أنه لا يختلف في زمن أوباما عن عهد بوش إلا في (الأسلوب واللغة)، فبغض الطرف عن تأكيد الرئيس أوباما لحقيقة راسخة وهي علاقة أمريكا المتينة مع إسرائيل التي تعتبر المعيار والمرجعية لكل المواقف السياسية الأمريكية، إلا أنه أعاد مسلمات هذه المواقف إزاء هذا الصراع وفق سياسية (الكيل بمكيالين)، فرغم أنه تحدث عن معاناة الفلسطينيين وحقهم في دولة خاصة بهم، إلا أنه دعاهم إلى التخلي عن العنف (المقاومة) فهو طريق مسدود، وضرب ب(سود أمريكا) مثلاً وهذه مغالطة، فأمريكا ليست أرضاً للسود الذين تم جلبهم من إفريقيا، بينما فلسطين هي أرض الفلسطينيين، كما أنه لم يشر إلى أن المقاومة - أو العنف حسب تعبيره - هي أساساً نتيجة لسبب قائم هو (الاحتلال) الإسرائيلي، رغم أنه في بدايات الخطاب قد تباهى أن أمريكا وليدة ثورة ضد الامبراطورية البريطانية. بل لعل المستمع قد لاحظ أن الرئيس أوباما طالب المسلمين ب(نسيان الماضي) في الوقت الذي يجتر فيه تاريخ اضطهاد اليهود ومعاناتهم التاريخية وبالذات (محرقة اليهود بيد النازية) وهي من الماضي، مع تجاهل (محارق الفلسطينيين على يد اليهود) وهي في الحاضر، كما طالب الفلسطينيين أيضاً بعدم إطلاق الصواريخ على أطفال اليهود، بينما صواريخ الطيران الإسرائيلي تفتك بأطفال غزة وجنين والضفة وغيرها.
أيضاً الكيل بمكيالين استمر في خطاب أوباما، حيث دعا ل(حل الدولتين) رغم الرفض الإسرائيلي لهذا الحل وإلى (خريطة الطريق) التي اعتبرت مرجعية الحل، فهاهو يدعو الدول العربية إلى مساعدة الفلسطينيين للاعتراف ب(شرعية) إسرائيل، وأن مبادرتهم للسلام بداية مهمة ولكن ليست نهاية مسؤولياتهم، ما يعني المطالبة ب(تنازل)! في المقابل يرفض (استمرار المستوطنات)، لاحظ أنه لم يطالب ب(إزالته)، خصوصاً أن هذا الاستيطان زاد ثلاث مرات منذ اتفاقية أوسلو، وهو موقف يشبه تماماً موقفه المبهم من (الأسلحة النووية)، الداعي إلى منع سباق التسلح النووي في المنطقة، وأن أمريكا تسعى لمنع أية دولة لامتلاك هذا السلاح، في إشارة إلى إيران التي أعطاها الحق في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية، ودون الإشارة للدولة الوحيدة وهي إسرائيل، التي تمتلك هذا السلاح الخطير في المنطقة.
هذا أبرز ما جاء في خطاب أوباما رغم أنه حفل بنقاط أخرى مهمة ك(التنمية الاقتصادية) التي لم يتعرض فيها لخلل النظام الرأسمالي، إضافةً إلى الحرية الدينية، وحقوق المرأة، وهي مواضيع شوهت إيجابية أفكارها (ضبابية المفردات)، فلقد كرر مقولة (الدول ذات الأغلبية المسلمة) وليس الدول الإسلامية وهذا انتقاص في إشارة إلى حقوق الأقليات غير المسلمة، فهل تقبل الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية أن يقال عنها دول ذات الأغلبية المسيحية.
Kanaan999@hotmail.com