لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
ها هي تلك الأماكن القديمة تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، تلوح من بعيد، وكأنني لم أقض فيها نهارات ولا ليال طوالاً، وكأنه لم تصطخب فيها أحاديث ولم تنسج فيها حكايات ولا قصص وشجون!!
هنا مر الصحب وغادروا، مضوا، فرقتهم الدنيا أشتاتاً، بين راحل إلى الأبد، وراحل في الطريق إلى الأبد، مضوا كل في طريق!.
في هذا المكان كانت لنا حكاية، وفي تلك الزاوية قصة، وعلى ذلك المقعد الكسول دارت كلمات أولى نقية عبرت بنا الآفاق إلى شجن ورفيف وعذابات قلبين عاشا أحلاماً طفولية عذبة مزقتها التقاليد وفرقتها بدداً طبقية القبيلة!.
راحل أنا بعيداً، ململماً جوانح قلب وفيّ لتاريخه، حفي بشخوص ذلك التاريخ، وزمان ذلك التاريخ؛ راحل ومعي ألف حكاية عن الصبر والمرارة، والإخفاق والنجاح، والشجاعة والجسارة، وفورة الحياة، وأحلام غضة خضراء تبرعمت وأينعت ثم اجتاحتها الأعاصير والعواصف فتبدلت الديار، وتغير الناس، وانقلبت الموازين، وزحف التتار بكل شراسة، يقتلعون الأخضر واليابس أو يسفكون دم الأحلام والتوهج والاندفاع إلى النضج والبناء والتأسيس.
اجتاح الإعصار تلك الديار فما بقي فيها من ينطوي على وقدة حياة، ولا نبض وعود جميلة، فرقهم الإعصار يميناً وشمالاً، حتى كادت تخلو من ضجيج وصخب يوحيان بأن (الأمكنة) إياها لا زال يعمرها إنسان، ولا زالت تلد عطاءً.
كم هي غالية أعمارنا حين نسيجها ونحميها بعيداً عن الاحتياجات والاستلاب والتهجين والمذلة، وكم هو مؤلم وحارق وممزق ذلك الشعور الغبي بالسكينة والاستسلام أمام هدير أعاصير موسمية تقذفها أنوار الحياة من الشرق أو من المغرب! إنه سكون الممرات وسكينة الضعف، وكلاهما على طرفي نقيض من الحياة الحقة التي بها نحتفل وبأهدابها نتمسك وبمعانيها الجميلة المشرقة نتنسك!
وإن أزكى سنوات العمر وأكثرها نفاسة وبهاءً لتتأبى على التهجين والاستسلام لمشاعر سلبية تغرسها الأعاصير في تربتنا وتبذرها في وجداننا كي يغلبنا اليأس ويفتك بنا الإحباط!.
راحل بعيداً وفي قلبي وبين جوانحي وعلى رفيف أهدابي سنوات غرٌ مشرقة، كتبت فيها أذكى الأسماء، ونقشت في صفحاتها أجمل المعانين ودونت في ورقاتها البهية كلمات الحب والولاء والامتنان والتواصل والحكمة والأمل والأشجان ومتعة الفن وسمو الفكر وصدق الغناء والإخلاص في توليد (إبداع) وخلق (قيمة) تزهو بها النفس وتزكو.
كيف لي أن أنسى ذلك التوهج وتلك الآمال المشحونة بالأحلام الوردية في ضحى يوم غابر من الزمن القديم، وبين عيني الريفيتين عزيمة على اختراق المستحيل، وقفز الحواجز لأصل إلى دخول معترك الكلمة واقتسام نصيبي الذي أستطيعه وأقدر عليه في هذه الساحة (الغابة) الكثيفة الملتفة الأغصان التي لا يعي القادم إليها أين يسلك كي يصل إلى طرف منها.
يا لك أيها (الفتى) الغض من بريء وجميل، ليس بين يديك إلا كتاب، وليس في أحضانك سوى معنى شريف؛ قدمت إلى تلك الساحة لا تملك إلا وقوداً هائلاً من العزيمة، ومعاني عميقة من النبل، ومعيناً لا ينضب من الطيبة والبراءة والجمال وسمو النفس، وليس غير هذه في يديك يا فتى كي تدفع بها بلاءً أو تصد بها عن مواجع!
كان بينك وبين المكان صلة مقدسة، صار جزءاً منك وصرت جزءاً منه، فهو أنت وأنت هو تكون في داخلك وتكور حتى غدا واحدة من كريات دمك البيضاء والحمراء، صلة روحانية تحيل الجماد إلى محبة، فكيف بها مع الإنسان ذي المشاعر والأحاسيس؟!
لقد اكتملت اللوحة المحفورة في الذاكرة بكل نتوءاتها وتضاريسها، وبكل حلاوتها ومرارتها، وكل رموزها ومن مروا فيها، فلم تدع فصلاً ولا موسماً ولا حكاية ولا وجها ولا موقفاً ولا تدفقاً ولا بوحاً وشكوى، ولا شجناً ورفيفاً إلاّ نقشته ولونته وجسمته ووسمته وعرفته، وحفظته كما هو وكما كان، فذاك صديقي الحميم بكل أناقته وكبريائه وأنفته، وذاك صديقي اللوذعي الفطن الذكي الذي أستشيره للبحث عن حلول حين تتأزم قضية، وذاك الرجل العجيب الغريب الذي لا يتكرر أبداً بذاكرته الفذة وحكاياته الطريفة الموغلة في الزمن وبهزائمه وانتصاراته وبمكاسبه وخساراته، هو هو من يحبُّب ويرغب ويؤكد أن الانتماء لما تحب وتهوى هو الأبقى والأنقى والأوفر إبداعاً وتألقاً ونجاحاً. وذاك ناسك آخر في محرابه يتأبط مجلاته وقصاصاته، وعلى بعض أصابعه أثر من محبرة، وعلى وجنتيه ابتسامة وحكمة وزهو بما يعمل، أما صديقي الآخر الساكن في ذاته التي لا يبرحها فهو أعجوبة الأعاجب؛ لأنه لا يرى الناس والعالم إلاّ من خلال حالته المزاجية المهينة عليه؛ فهو بين راض وساخط، فرح ونكد، سعيد وشقي! فمنهجي للصلة به يقع في التوسط بين تلك الحالات كي لا أزيد من حالته التي يعيشها اللحظة فيفور سعادة أو يتمزق شقاءً!!.
هي هذه اللوحة المحفورة المنقوشة بدم الروح وخفق الوجدان وصدق العزيمة وعبق المحبة وجمال الحكمة وزهو النجاح وتوقد الشباب لا يمكن أن تمحوها الأعاصير مهما اشتدت، ولا العواصف مهما زمجرت.
حملت معي تاريخي بكل ما فيه من لذة وألم وبكل ما يزهو به من نجاح وتألق، وما يشوبه من إخفاق وتراجع، حملت معي أصدقائي ووطني وقضاياي وناسي ومن أحبني وكرهني وأغلقت الدروب، ووضعت الحواجز السميكة، وحفظت بقية الزبالة التي تأبت على الانطفاء ورحلت.
لأدع الأرض التي عزت يباباً لا زرع فيها ولا ضرع، ولأدع السنابل التي ما صارت تثمر حباً نضيداً، ولأدع الجداول التي ما عادت تروي العطاشى، ولأدع المنابر التي ما عادت تشجي وتطرب وتغني وتملأ القلوب والعقول.
قدر هو ذلك اليوم الذي انقلبت فيه الأنواء، فتبدلت الفصول والأحوال، وتغيرت النفوس والطباع، فجلوت الأنواء بنباتاتها وأشواكها وجفافها وأتربتها ومواسم (؟؟؟) فيها، حتى لم يبد من معالم الديار القديمة سوى اسم لا يكاد يبين، ولا من أناس ذلك الزمان سوى بقايا من أرواح هائمة (ضائعة) هنا وهناك.
إنها الأرض (اليباب)
المصوحة ينعق فيها البوم!
عضو هيئة التدريس بكلية اللغة العربية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
للتواصل: ksa-7007@hotmail.com