تعددت عندنا وعندهم بالعالم العربي وبأمريكا وعبر القارات قراءات خطاب الرئيس الأمريكي الذي ألقاه بالقاهرة ووجهه للعالم العربي والإسلامي يوم الخميس 4 حزيران 2009م. وتراوحت القراءات بين قراءات انطباعية وأخرى تحليلية، كما تلونت من قراءات إشادة وتمجيد إلى قراءات نقد وتمحيص.
شبه البعض الخطاب الأمريكي بخطاب الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م، كما رأى البعض وجه شبه وتقارب بين باراك أوبما وبين نابليون بونابرت. فهل كان الشبه شبها بين الخطاب والخطيب أو أن وجه الشبه المقصود كان على ما يفصل بين الخطابين من قرون وتحولات شبه بين حالة مصر مطمع الغزاة والأقوياء في تلك الحقبة البعيدة وبين الحالة العربية الراهنة. وكذلك الشبه بين ما يجتمع عادة من ملامح القوة المدغومة بالترغيب في خطاب (الفاتحين) أو (المحتلين) أو من يسمون لتخفيف المصاب ب (الحلفاء).
ولقد وجدت في هذه القراءة الأخيرة بالذات ما يستحق النقاش.
يذهب البعض في تلك المقارنة إلى القول ما أشبه الليلة بالبارحة؛ فبينما انطلقت خطبة نابليون من أرضية الأزهر متكئة على قيمة المكان الروحية والتاريخية والرمزية، فقد جاء خطاب (أوبما) على نقطة مشتركة مع رمزية الأزهر وجامعة القاهرة معا.
وبينما جاءت خطبة نابليون محملة بلغة الاسلام والسلام والتقدم ونقل العالم العربي من هوة التخلف الاجتماعي والفقر والقهر السياسي إلى مصاف التقدم الأوربي آنذاك، فقد كان خطاب (أوبما) أقرب لأن يوصف بأنه عبارة عن (بحث دقيق ومدروس) في هذا المجال. وذلك سواء على مستوى صياغة الخطاب بلغة مطعمة بآيات القرآن الكريم وبأسلوب حضاري يعترف بالآخر، كما في إقراره بدور الحضارة العربية الإسلامية في بناء الحضارة الغربية، أوماجاء في مضمون الخطاب على مستوى المناداة بالعدل والديموقراطية وحقوق الإنسان والتبادل المعرفي (وقد عدت للنص المكتوب للخطابين بنفسي ولم أكتفي بما كتب في ذلك، حيث لم يلمح أي من الخطابين بمصالحه الاقتصادية ناهيك عن المطامع السياسية)، وبينما جاءت خطبة نابليون ممهدة لشوكة التوسع الاستعماري الأوربي الذي لم تشفَ خاصرة العالم العربي منه قط منذ تلك اللحظة الحارقة، فإن خطاب (أوبما) يأتي أيضا في هذا الوقت الذي مضى فيه ستة أعوام على الاحتلال الامريكي للعراق، وستون عاما على الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ولازال، ليس لطريق الخروج خارطة محددة لا من حيث التوقيت بالنسبة للعراق ولا من حيث حصول أصحاب الحق على جزء بسيط من جل أرضهم التي استباحها الاحتلال الاسرائيلي بمساندة أمريكية.
غير أن هذه المقارنات بين خطبة بونابارت كرمز للاستعمار الأوربي القديم وخطاب (أوبما) كرمز للقوة الامريكية بمعناها الامبريالي الجديد، وإن كان مبنيا على ذاكرة التوجس من ناحية وعلى طبيعة قوى السلطة لكل من النظامين الذي يمثله كل من الرجلين في لحظته التاريخية المعنية في علاقتها باللحظة التاريخية لمن يوجه إليهم الخطاب في العالمين العربي والإسلامي على بعد الشقة الزمنية بين اللحظتين، إلا أن هناك فارقا موضوعيا بين الرجلين على الأقل، وإن تشابهت لغة الخطاب ولحظة الخطابين، كما أن هناك فارقا إعلاميا واتصاليا ومعرفيا بين اللحظتين يحتم فارقا ثالثا وهو ما يتمثل في طبيعة المتلقي وتعدده. مما يجعل كثيراً من القراءات لخطاب (أوبما) تحديدا سواء قراءة تشبيهه بخطبة نابليون أوسواها من القراءات في حالة من الالتباس كما يجعلها منفتحة على احتمالات أكثر تفاؤلا.
إن وجود( أوبما) نفسه على رأس سلطة الإدارة الأمريكية كأول رئيس أمريكي منتخب من أصول أفريقية لا يرمز فقط إلى انتصار تلك القوى الاجتماعية التي عانت في التاريخ الامريكي من الاضطهاد العنصري والتهميش الاجتماعي والاستبعاد الثقافي والاقصاء السياسي، بل يرمز أيضا إلى انتصار حزمة من المبادئ الإنسانية ومنها نصرة مبدأ المقاومة ضد الاستسلام للأمر الواقع، ومبدأ العدل ضد الظلم، ومبدأ المساواة ضد التفرقة العنصرية ومبدأ الديموقراطية ضد الحاكمية المطلقة، وما تشتمل عليه من مبادئ الحرية والكرامة والسلام بما يشمل التداول السلمي للسلطة.
وهذا الأمر لا يعطي أملا في شخص (أوبما) وحسب بل إنه يعطي أملا أبعد من ذلك. وهو الأمل بأنه نتيجة المقاومة والسجال فقد تحقق على مستوى دولي اليوم تقدما إنسانيا في مجال الاقرار بحقوق الإنسان وبحقوق القوى الاجتماعية والأوطان في حصة أكبر من العدالة والحرية والسلام مما كان عليه الأمر قبل قرنين من الزمان إبان حملة نابليون على مصر. هذا رغم وجود جيوب من الانتكاسات هنا وهناك. غير أن قول ذلك لا يعني غض الطرف عن واقع مقابل، وهو واقع أن (أوبما) وإن جاء من خلفية تلك المقاومة وذلك السجال في عمقها التاريخي، فإنه أيضا يمثل النقيض وضده بوجوده رئيسا لنظام رأسمالي إمبريالي من صلب طبيعته الاقتصادية والسياسية التوسع والاستحواذ.
فكيف نقرأ الخطاب إذن؟!
لقد جرت عدة قراءات من قبلهم، منها قراءة نعوم تشاومسكي التي من ضمن ما قال فيها أن (الكلام المنطقي والعقلاني) الذي جاء في خطاب (أوبما) على جماله فإنه لم يأت بجديد لأنه يعرض على العالم العربي مثلا أن يدعم مبادرة السلام العربية بينما لم يوضح أو يعطى أية ضمانات بتحقيق الحد الأدنى من مطالبها سوى مطالبته من دولة الاحتلال الاسرائيلي بوقف بناء مستعمرات جديدة. كما أنه يدعو إسرائيل والفلسطينين للسير على خارطة الطريق دون أن يتطرق للأربعة عشر بندا من العصي التي وضعها الكيان الصهيوني في عجلة الخطة. وباختصار فقد رأى تشاومسكي إن خطاب (أوبما) لن يخرج عن مفهوم تطييب الخواطر بالكلام ما لم يكن له مصداقية على مستوى التطبيق سواء بفلسطين أو العراق.
أما هاورد زن فقد كتب من قبل لقد كنا( تشيير ليديرز) بمعنى مشجعين مثل مشجعي فرق الرياضة (لأوبما) طوال حملته الانتخابية، وكان انتخابه انتصارا لمبادئ المساواة، ولكن لاستمرار هذا النصر والمحافظة عليه يجب أن ننتقل من صفوف المصفقين إلى صفوف الأصدقاء المخلصين، وهذا لن يكون إلا بأن نطالبه ونتوقع منه تطبيقا للوعود وجدولا زمنيا للوفاء بالالتزامات على مستوى الإنقاذ المالي من الأزمة الداخلية القائمة، وعلى مستوى وقف الحرب وإعادة كل جندى أمريكي إلى البلاد وعدم الهدر المالي بالدعم اليومي لإسرائيل وعدم التورط مع من لا يحترمون حرية شعوبهم.
أما نحن، فلا يمكننا أن نقرأ الخطاب من خلال (روعة لغة الخطاب وعدالته إلى آخر التغني بالبلاغة والشعارات)، بل إننا لا يمكن أن نقرأه حقا مهما حدا البعض الأمل في (أوبما) إذا كنا لا نملك شروط القراءة التي تخرجنا من دور المتلقي السالب إلى دور المشارك المتكافئ في كتابة النص وإيجاد تطبيقات عملية ملزمة بجدول زمني محدد بما يليق بعدالة قضايانا.
هذا.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
Fowziyah@maktoob.com