مرة أخرى تشهد شبه الجزيرة الكورية واحدة من نوبات التطرف الدورية، والتي ارتبطت هذه المرة بانتحار الرئيس السابق روه مو هيون في الثاني والعشرين من مايو - أيار، وثاني اختبار نووي تجريه كوريا الشمالية. لقد كان انتحار روه كارثة بالنسبة لأسرته وعاراً وطنياً، في حين كان التفجير النووي الذي أمر به زعيم كوريا الشمالية كيم جونج إل بمثابة وسيلة للتنفيس عن نوبة غضب، بيد أن هذا من شأنه أن يخلف عواقب وخيمة سوف تتحملها الكوريتان والعالم أجمع.
إن قنبلة كوريا الشمالية، التي تقدر قوتها بحوالي أربعة كيلو طن، لا تقترب بأي حال من هول القنبلتين الذريتين اللتين تراوحت قوتهما بين 15 إلى 20 كيلو طن، واللتين أسقطتهما الولايات المتحدة على اليابان قبل أربعة وستين عاماً. والحقيقة أن هذه المحاولة المتغطرسة من جانب كيم جونج إل تذكر الكوريين بالضفدعة الأم في (خرافات ايسوب)، والتي نفخت نفسها حتى تقلد ثوراً.
ورغم ذلك فإن العداوة التي تتحدى بها كوريا الشمالية العالم ليست ضرباً من الجنون المطبق. بل إنها تشكل منتجاً ثانوياً لمخاوفها الحادة من انهيار النظام.
إن التطرف الكوري يحيرني دوماً بصفتي مواطناً كورياً. فأين في أي مكان آخر من العالم غير كوريا الشمالية قد تجد نظاماً شيوعياً شمولياً محوراً بهذا القدر من العزلة والصرامة والعسكرة؟ وأين على وجه الكرة الأرضية قد ترى شحاذاً مسلحاً بالقذائف النووية مثل كيم جونج إل؟ وهل هناك أي بلد آخر حيث استتب مثل هذا الحكم الغوغائي لأب وابنه فقط طيلة واحد وستين عاماً؟
وعلى نحو مماثل، فأين في أي مكان آخر من العالم غير كوريا الجنوبية قد تجد كنيسة مسيحية تقترب عضويتها المسجلة من ثمانمائة ألف عضو، وحيث ما يقرب من مائة ألف من أتباع هذه الكنيسة يحضرون مواعظ الأحد الثلاثة التي تقدم كل أسبوع في الكنيسة؟ وأين في أي مكان آخر من العالم قد ترى رئيس جمهورية سابقاً ينتحر بالقفز من أعلى منحدر صخري بالقرب من محل إقامته؟ وهذا في البلد الذي كان متوسط دخل الفرد فيه أربعين دولاراً فقط في أربعينيات القرن العشرين، ثم أصبح الآن صاحب المركز الثاني عشر أو الثالث عشر بين البلدان الأضخم اقتصاداً على مستوى العالم.
كان كورنيليوس أوزجود، وهو عالم أنثروبيولوجيا أميركي، يعزو التطرف الكوري إلى الطقس السائد في شبه الجزيرة الكورية. فقد لاحظ أن المزاج الكوري نتاج لفصول شتاء طويلة قارسة البرودة وفصول صيف حارة ورطبة، وفصلي ربيع وخريف قصيرين للغاية.
غير أنني أعتقد أن التطرف الكوري ينبع من جغرافية المكان وتاريخ البلاد. فبسبب إحاطة كوريا بجيران معادين، مثل الصينيين والمغول والمنشوريين في الشمال، واليابانيين عبر البحر، ظل الكوريون طيلة آلاف من السنين يكافحون بكل ضراوة من أجل الحفاظ على هويتهم العرقية واللغوية والثقافية والسياسية.
ولكن إذا ما نحينا لعبة توجيه اللوم جانباً فما الذي نستطيع أن نفعله إزاء كوريا الشمالية؟ من المؤسف أن إعادة الجني النووي إلى القمقم أمر شبه مستحيل. والحقيقة أن فعالية الخيارات المتاحة محدودة، وكل هذه الخيارات حبلى بعواقب سياسية وعسكرية لا يمكن التنبؤ بها.
يبدو أن خنق كوريا الشمالية اقتصادياً يشكل الخيار الاحتياطي. لذا فلابد وأن يكون تعزيز وإحكام تنفيذ قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1718 والذي صدر في أعقاب أول اختبار نووي أجرته كوريا الشمالية في أكتوبر - تشرين الأول 2006، بمثابة المهمة الفورية الأولى. والآن يعمل مجلس الأمن بالفعل على وضع مسودة لقرار جديد. ولكن لكي يكون القرار الجديد فعّالاً فلابد من مشاركة الصين بشكل كامل وغير متردد. وأي إجراء أحادي يتخذ ضد كوريا الشمالية من قِبَل بلدان أفراد فلابد وأن يتم تنفيذه في ظل إطار أوسع للقرار الجديد.
وحتى في حالة فرض عقوبات جديدة فلابد وأن يُترَك باب المحادثات السداسية مفتوحاً أمام كيم جونج إل. وفي هذا الموقف الذي تغلُب عليه المواجهة المباشرة فلا ينبغي للأطراف الخمسة الأخرى في المحادثات - الصين واليابان وروسيا والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية - أن تستسلم لكوريا الشمالية أولاً. ففي الوقت الحالي أصبح الرأي العام على مستوى العالم، وخاصة في كوريا الجنوبية واليابان، متقلباً إلى حد خطير. والحقيقة أن الأمر يتطلب فترة هدوء ضرورية. ذلك أن السعي إلى الحوار مع كوريا الشمالية، بعد إطلاقها لغضبتها الصاروخية مباشرة وفي أعقاب تبنيها لسياسات حافة الهاوية، ليس بالتصرف الحكيم أو العملي على الإطلاق.
بعد فرض عقوبات صارمة وفعالة تحت قيادة الأمم المتحدة، يتعين على الأطراف المعنية أن تنتظر إلى تستشعر كوريا الشمالية آلام الضغوط الاقتصادية. ولكن كوريا الشمالية واحدة من أكثر دول العالم فقراً وانعزالاً، وهذا يعني أن فعالية العقوبات سوف تكون محدودة.
وفي الوقت نفسه يتعين علينا أن ندرك أن التهديد النووي لا يشكل الخطر الأكثر إلحاحاً. بل إن التهديد الأعظم اليوم يتلخص في اندلاع القتال الفعلي، ففي اليوم التالي للاختبار النووي الذي أجرته كوريا الشمالية أعلنت كوريا الجنوبية عن مشاركتها الكاملة في مبادرة منع الانتشار الإستراتيجية التي تقودها الولايات المتحدة، والتي تسعى إلى اعتراض السفن التي قد تشارك بشكل غير قانوني في نقل التكنولوجيا النووية. واعتبرت كوريا الشمالية هذا القرار من جانب كوريا الجنوبية (إعلاناً للحرب). لذا فإن الأمر سوف يتطلب قدراً عظيماً من الحرص والتعقل في البحار المحيطة بكوريا في الأيام والأسابيع القادمة.
إن تصاعد التوتر في شبه الجزيرة الكورية من شأنه أن يحطم بصيص الأمل الضئيل في إعادة توحيد شطري كوريا، والذي أتى بعد عشرة أعوام من التقدم تحت قيادة حكومة كيم داي جونج وحكومة روه مو هيون. ويبدو أن كلاً من رئيس كوريا الجنوبية لي ميونج باك من خلال تخاذله وتردده، ورئيس كوريا الشمالية كيم جونج إل من خلال ابتزازه النووي المتجدد، عازمان على الوصول بالعلاقات بين البلدين إلى أقصى درجات التدهور.
يتعين على الزعيمين الحاليين في شبه الجزيرة الكورية ألا يكررا الخطأ الذي ارتكبه أسلافهم في القسم الأخير من القرن التاسع عشر. فبعد أن أعمتهم الصراعات الداخلية على السلطة، فشلوا في إدراك خطورة المناورات الإستراتيجية التي نفذتها القوى العظمى في المنطقة. وأدى ذلك الفشل بشكل مباشر إلى استعمار اليابان لكوريا.
إن تدهور العلاقات بين الكوريتين من شأنه أن يجعل كلاً من الجانبين أقل أمناً واستقراراً على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية. وإذا ظلت شبه الجزيرة الكورية واقعة في هذه الدوامة فلسوف تصبح كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية أشد عُرضة للمناورات الإستراتيجية التي تقودها القوى المجاورة. ونتيجة لهذا فإن تنامي العداء بين الكوريتين قد يكون في نهاية المطاف أشد فتكاً برخاء ورفاهية كل الكوريين من انتحار روه مو هيون المأساوي والألعاب النارية العقيمة التي يتسلى بها كيم جونج إل.
سونج تشول يانج سفير جمهورية كوريا السابق إلى الولايات المتحدة، وهو أحد الأساتذة البارزين في الجامعة الكورية بمدينة سيؤول، وهو مؤلف كتاب (الأنظمة السياسية في كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية: تحليل مقارن).
سيؤول - حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2009
خاص «الجزيرة»
www.project-syndicate.org