خاطبت العالم الإسلامي من خلال مبادئ دينهم وجذوره التي لم تتبدل منذ أربعة عشر قرناً، وتحدثت إليهم من خلال تلك الأصول التي تحرم قتل الإنسان لأخيه الإنسان، وتدعو الناس بمختلف أجناسهم لنبذ الوثنية، وللعيش والتعارف والتآخي، وإعمار الأرض وإنقاذ شعوبها من الهلاك..
سيادة الرئيس دعوت المسلمين أن لا يمارسوا القتل لأن دينهم يحرم قتل النفس مهما كان جنسها أو دينها، لكنك أغفلت ربما من دون قصد أشياء كثيرة كان من أهمها تاريخ القتل والتشريد في المنطقة، وأصول الجذور المؤسسة لتاريخ الجريمة السياسية والدينية في المنطقة منذ آلاف السنين، لكننا نحسب لخطابكم الجديد أنه لم يجرم المقاومة، وتجاوز مصطلح الحرب على الإرهاب، ودعا للشفافية ومحاربة الفساد، ونوه باقتصاد ماليزيا كمثل حي على الدولة الإسلامية المعاصرة، وهو بلا شك خطاب لاقى أصداء إيجابية في العالم، لأنه أيضا يتضمن اعترافا بدور العرب والمسلمين المؤثر في تاريخ الحضارة الإنسانية..
الخطاب يمثل نقلة نوعية في الخطاب الأمريكي، وقد يكون حدثاً مهماً إذا أدى بالفعل إلى نتائج واقعية، وإلى إحداث تغيير في واقع الصراع العربي الصهيوني، لكن ما أود التطرق إليه في هذه الزاوية هو استدلالك بآيات قرآنية تدعو وتسمو كثيراً بالبعد الإنساني الإيجابي، وتحرم القتل والعنصرية، وهو موقف ينم عن اطلاع عميق للرئيس الأمريكي على الدين الإسلامي.. فيما غاب عن خطابكم البليغ أي إشارات للجذور أو الأساطير المؤسسة للعنصرية ولمشروعية التشريد والقتل والإبادة للآخر..
الإشكالية يا سيادة الرئيس لم تكن على الإطلاق في آيات القرآن الكريم، ولكن على وجه التحديد في الموقف التوراتي من الآخر، والذي لا تزال مبادئه تتداول في الوقت الحاضر كوصايا مقدسة عند اليهود والبروستانت المسيحيين، والذي يأمر أتباعه بوضوح بلعن حام ونسله الكنعاني العربي، ويقرّ بعبوديته لنسل سام وإلهه كما ورد في التوراة: (كان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك سام وحام ويافث. وحام هو أبو كنعان، ومن هؤلاء الثلاثة تشعبت الأرض. وابتدأ نوح يكون فلاحاً وغرس كرماً. وشرب الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه. فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجاً. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء. فلم يبصرا عورة أبيهما. فلما استيقظ نوح من خمره، علم ما فعل به ابنه الصغير. فقال: ملعون كنعان. عبدالعبيد يكون لإخوته، وقال مبارك الرب إله سام.. ليكن كنعان عبداً لهم)... تكوين الإصحاح 9: 18-27
لا يقرّ الإسلام لعنة ابن بذنب أبيه كما هو الحال في التشريع التوراتي، واللعنة الأبدية لكنعان ونسله وهبت لسام ونسله من بعده أرض كنعان المطرود من الرحمة الإلهية إلى الأبد.. (أما أنا فهو ذا عهدي معك وتكون أبا لجمهور من الأمم فلا يدعى اسمك بعد إبرام، بل سيكون إبراهيم.. وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبديا. لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك وكل أرض كنعان ملكاً أبدياً وأكون إلههم) تكوين 17: (4-8)..
لم يرد في تعاليم ديننا الحنيف ذلك العهد التوراتي الذي يستثني أخاً ويعطيه آخر لأسباب عنصرية (:ولكن عهدي أقيمه مع اسحق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت من السنة الآتية..) تكوين 17: (20 - 21).
لا يتوقف الموقف التوراتي فقط من الآخر بالطرد والتهجير، ولكن بالدعوة للإبادة الجماعية للآخرين: (فإن ملاكي يسير أمامك ويجيء بك إلى الأموريين والحثيين والفرزيين والكنعانيين والحويين واليبوسين فأبيدهم.. ولا تسجد لآلهتهم ولاتعبدها بل تبيدهم) خروج 23 (23-24)..، (وأجعل تخومك من بحر سوف إلى بحر فلسطين، فأنني أدفع إلى أيديكم سكان الأرض فتطردهم من أمامك) خروج 23:31
سيادة الرئيس: فرضت المبادئ التوراتية تاريخ المنطقة منذ وعد بلفور، الذي كان مجرد صياغة أخرى للوعد التوراتي، الذي فيه إقرار لمشروعية إبادة الآخر، وما يحدث بسببه من تشريد وقتل لسكان فلسطين الأصليين، ولو وضعنا يا سيادة الرئيس مبادئ الإسلام الإنسانية، ومواقف التوراة العدوانية من الشعوب الأخرى في ميزان الحضارة الإنسانية، لربما أدركت أن كثيراً من مواقف القرآن الكريم كانت في واقع الامر خطاباً مناهضاً لتلك النظرة العنصرية والعدوانية في التوراة، والتي حكم عليها الإسلام بالتحريف لأنها مخالفة للفطرة الإنسانية.
أخيراً سيادة الرئيس: ألا يستحق الإنسان في هذه المنطقة وفي بقية العالم اعتذارا عما حدث بسبب هذه المبادئ العدوانية ضد الآخر، والذي كانت بمثابة المشرع لتاريخ كثير من الأحداث المأساوية في العالم بداءً من إبادة الهنود الحمر وسرقة أراضيهم، وإبادة السكان الأصليين في أستراليا، واختطاف وسرقة الأفارقة وثرواتهم من أراضيهم، وانتهاءً بتشريد وتهجير العرب عن أراضيهم وأوطانهم، أي باختصار عن كلما شرعته وتشرعه تلك الأساطير والجذور للأيدلوجيا السياسية الغربية من استباحة لدم وأراضي وثروات الآخر.