والبؤس الذي يعانيه كبار الفلاسفة شاهد على اضطراب الوعي وتردده وحيرته، فما من فيلسوف سلَّم لنتائجه التي أفنى في البحث فيها زهرة شبابه، لقد مات الفلاسفة كلهم أجمعون وفي أنفسهم حسرات.....
|
..... حتى لقد أصبحت كتبهم كما إنفاق المشركين لإطفاء نور الله التي يقول الله عنها: { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} ، ولابد أن نفرق بين فلاسفة شغلوا ب(الميتافيزيقا) وآخرين شغلتهم ظواهر الحياة الدنيا، ومع ما وقعوا فيه من اضطراب مخل بالوعي المعاصر إلا أنهم تركوا ثروة معرفية ومناهج متعددة وآليات متنوعة تثير الإعجاب والخوف معاً، ولقد أشرت إلى أن الفلسفة الحديثة مرتهنة للفعل ورد الفعل، والمتابع لتاريخها يلمس ذلك فالإغراق - على سبيل المثال - في (الميتافيزيقا) تولد عنه الاتجاه الواقعي أو الوضعي الذي تبناه (زكي نجيب محمود) وحماسه لهذا جعله يؤلف كتاب (خرافة الميتافيزيقا) وبعد مواجهته تراجع وعدل من اندفاعه فحول الكتاب إلى (الموقف من الميتافيزيقا) وهذا الجزر والمد في أخطر المشاهد لا شك أنه يترك أثره السلبي على تشكل الوعي المعاصر.
|
والراصدون والمتابعون، لتحولات الفكر العالمي عبر العصور يروعهم الاضطراب، ويزعجهم امتداد زمن التيه دون الوصول إلى شواطئ الأمان إذ الآمال التي يتوق إليها المعذبون في مشاهد الفكر تحولت إلى عقبات وما كان هدفا بالأمس أصبح قيدا تتعثر فيه الخطى، والتحولات الفكرية التي مرت بها الإنسانية لم تكن سهلة ميسورة، وكيف يتأتى لها اليسر وهي قد أسالت دماء ودمرت كيانات، وعلينا أن نستعيد الحركات الطائفية العنيفة والحركات السرية الهمجية، وهذه وتلك ناتج صدام فكري تحول إلى صدام مسلح، وحتى الدعوات السلمية التي استبعدت الصدام الفكري والصدام المسلح مرت بمراحل انزلقت فيها إلى ميادين القتال، وبعد الفوات رددت مع الشاعر:
|
إذا احتربت يوما فسالت دماؤها |
تذكرت القربى فسالت دموعها |
والذي يعنينا تشكل الوعي المعاصر، إن طائفة من المفكرين يستعيدون التاريخ ويفكرون بروح الثوري، وآخرون يقرؤون الحاضر ويفكرون بروح السياسي، وكلتا الطائفتين تعبَّان من معين (الأيديولوجية) و(الأدلجة) قد تفرضها المبادئ والمواقف وتقتضيها محققات الحضارة، ومن ثم تكون جزءا من المشروع الفكري، وقد يفرضها التعصب والاندفاع الطائش فتكون وبالا على المشروع وعلى الأفكار المجايلة له، ومن أدان (الأدلجة) على الإطلاق أو قبلها على الإطلاق يضاف إلى أعبائها وإشكالياتها، وكل تلك الاضطرابات المخلة بمسيرة الأمة ناتج التشكيل المنحرف للوعي المعاصر.
|
وأخطر من هذا نقل التاريخ بكل ظروفه ومحققاته التي سلفت ليحكم مسيرة الأمة، لقد نشأت مذاهب وطوائف في ظل ظروف طارئة وتركت أحداثا مؤلمة تشكل منها التاريخ الفكري والسياسي، واستعادة التاريخ والاحتكام إليه قد يبعث الرمم من أجداثها لتسهم في تعويق المسيرة لقد كان بإمكان (أوروبا) أن تصطحب تاريخها الدموي وأن تظل متوترة لا تلتقي على أمر، وبإمكانها أيضا أن تصفي حساباتها عن طريق ساحات القتال، ثم لا تحقق نصرا ولا حسما، ولكنها أخذت الدروس من التاريخ، ولم تقبل به متصرفا بمسيرتها الحديثة، وتجاوز التاريخ لا يعني الانقطاع عن الماضي ولكنه يعني تذويب العقبات وتناسي فترات الاختلاف والتلاقي عند القواسم المشتركة، والفرق واضح بين أبناء التاريخ وأبناء الحاضر وعقدة الأبوية صدمت الرسل لقد مرت الإنسانية بصراعات تبادلت معها الاتهامات صراعات سياسية وصراعات فكرية، صراعات قادها فلاسفة وصراعات قادها فرسان، وطوى كل قائد كشحه على ريبته، والمذاهب الفلسفية كلها مخاضات اختلاف في المفاهيم أو اختلاف في المواقف، واليوم وقد تبدلت المذاهب غير المذاهب والتيارات لابد من قراءة متأنية للواقع المعاش ومتطلبات وقراءة فاحصة لمحققات الحضارة ومرجعياتها المحفوظة، والانطلاق من حيث انطلق العلماء الربانيون، الذين يردون إلى الله والرسول، وكيف تتفرق بنا السبل وفينا كتاب الله وسنة رسوله، ولو أن الفرقاء رضوا بالرد إلى المرجعيات النصية وانطلقوا منها لكان خيرا لهم، وإذ لا ننكر اختلاف المفاهيم والدلالات فإن هناك مساحة معتبرة من الاختلاف رضي بها العلماء وتعاذروا فيها، على أن من مصلحة الأمة أن تلتمس مجالات الاتفاق لتنطلق منها في الحوار، ولكي يطفئ المحاور المحق ثورة النفس وارتيابها لابد من بعث الثقة في النفوس من حيث الأمانة في العرض وتوثيق القضايا مجال البحث وتفادي الدخول في قضايا لم تتوفر السيطرة عليها لأن من حاور في غير فنه جاء بالعجائب، ومن خلل الوعي المعاصر أن كثيرا من المحاورين يجهلون أصول الطرف الآخر ومرجعياته أو يلزمونه بما لا يلزم من حيث التخلي عن مناهجه وأصوله ومرجعياته، ولا يمكن أن تثني الطرف الآخر عما يذهب إليه إلا بلغة يفهمها وطريق يعرفه، وفوق ذلك كله لابد قدوة ترود وتقدم الذات، وإذ لا نقصد في حديثنا وضع آلية أو صيغة للحوار مع المخالف فإننا نرجئ مثل مكتفين بتجسيد معضلات تشكل الوعي المعاصر في ظل التقارب العالمي وفضوله، وتدخله في سيادة ما يسميه بالعالم الثالث، وهو تدخل لا يحترم التفاوت الحضاري ولا الدساتير السائدة ولا القوانين الحاكمة، فيما يوجد داخل هذا العالم المنكوب من أبنائه من يسهمون بطمس معالمه الحضارية ظنا منهم أن الخيار الوحيد هو الأخذ بعصم الآخر.
|
|