الثقافة أسلوب الحياة إجمالاً، وفي (لسان العرب) مثلاً قوله: ثقف الرجل ثقافة أي صار حاذقاً فطناً، وفيه أيضاً ثقّفه تثقيفاً أي قوّم عوجه، وأصل ذلك للرماح، ثم أستعير فصار للتقويم الخلقي.....
|
.....كما في قول السيدة عائشة تصف أباها: (وأقام أودَه بثقافه)، بناء على هذا المعنى الدقيق نجح الجنرال شارل ديجول وفشل الفوهرر هتلر حينما أدرك الأول قيمة الثقافة والأدب وجعلهما أساساً لنظرية الهوية الفرنسية، وعاد من منفاه البريطاني وهو ينشد المارسلييز الذي ألهب به عواطف الفرنسيين تحت قصف الطائرات الألمانية المغيرة، وأكد ذلك حينما علق على جدران مكتبه في الإليزيه صورة مثقف فرنسي غير معروف، قيل إنه أطلق النار من مسدسه على رأسه عندما شاهد أول دبابة ألمانية تدخل إلى عاصمة وطنه (باريس).. وأدرك الآخر قيمة العرق فبنى نظرية الهوية الألمانية على العرق الآري والدماء الزرقاء في صورة مشوهة تبرز تفاصيلها في وزير دعاية هتلر، حين قال ما معناه: (كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي)... حاول هتلر أن يكون هتلر الفنان وهتلر الصحفي ولكنه فشل ونجح هتلر الطاغية... في حكاية لا تختلف كثيراً عن موسوليني الذي لم تقبله الجماهير الإيطالية روائياً ولا رساماً ولا صحافياً لأن أداءهما لا يتفق مع الأدب وقيم الأديب والشاعرية.
|
*** الدكتاتور لا يمكن أن يكون شاعرياً، لأن الشاعرية نبض إنساني هو أعلن بينونته عن إنسانيته بينونة كبرى، فالشاعرية تلمس مواطن الألم والأمل في فضاء الإنسانية الرحب وبالتالي لن يصل إلى هناك من كانت رغباته أوامر، وبكل تأكيد هذه المنتجات الإنسانية الراقية قد يستطيع الحصول عليها وحفر اسمه على رواية أو قصيدة أو لوحة بأي طريق ولكنه لن يستطيع أن يمتلكها فعلاً فهي تنتمي إلى مجموعة جينية لا تنتمي ثقافته لها، إذ الثقافة بنت الحرية والدكتاتورية لا توحي إلا بالقيود والأغلال وهي أشبه بالأميبا أحادية الخلية التي تتشكل بطريقة فوضوية وتبتلع ما حولها بطريقة لا يليق معها إلا صمت جيتربيرج عندما دعته جامعة هارفارد إلى إحياء أمسية شعرية فيها. فقد وقف فترة يتأمل العيون المحدقة به عيناً عيناً، ويراقب الأنوف أنفاً أنفاً، وعندما تعب من المراقبة نزل عن المنصة، وهمّ بالخروج، وسأله الناس: أين القصائد يا مستر جينزبيرج؟ فأجاب، كأنه يجمع كل حكم الدنيا بين حاجبيه: (الصمت يصبح حلالاً فوق أرضية من دون قضية)..
|
|
إلى أي مدى يمكن أن يدرك الدكتاتور حاجة إنسان جائع إلى رغيف مشوه، رمى به الفران جانباً لعدم صلاحيته ولم يتجرأ حلمه في رغيف سليم فيما كان الجوع يدفع بأخته (طاما) إلى بيع نفسها... في رواية الرغيف المشهورة، كيف يحس دكتاتور بإحساس كهذا!!!... وإلى أي شعور بالحرمان يمكن أن يصل من خلاله إلى إحساس البطل المهجَّر في رواية البرتقال الحزين حينما اغتصب اليهود مزرعته المملوءة بالبرتقال فتسلل ليلاً (ليسرق) من أرضه بعض حبات البرتقال التي ملأ بها صدر ثوبه فاكتشفوا أمره وأطلقوا عليه النار ليختلط عصيرها بدمائه، قطعاً يستطيع أن يعرف معنى الدماء النازفة من صدر ذلك الرجل لأن هذا فنه واختصاصه لكنه لن يعرف أبداً لماذا اختار المؤلف عنوان الرواية (البرتقال الحزين)!!!!!.
|
|
بين الثقافة والموروث علاقات جذرية عند شعوب الأرض كلها، ولديها تقاليد شعبية وموروث محلي يؤنس أفراحهم ويقوي الروابط بينهم، ولكنه لم يكن يوماً محدداً لهويتهم ومعرفاً عليهم بل ما قدموه ويقدمونه لا يخجلون منه من مساهمات في الحضارة الإنسانية من علم وفن وقانون وموسيقى وأدب، صدقاً شعرت بالخجل كعربي من تشيكوفيسكي صاحب الرائعة سيمفونية (بحيرة البجع) حينما وضعها ذلك العربي خلفية لفيلم يصور طائرته فوق جبال الألب في سويسرا وهو يطارد وعلاً جبلياً وكأنه امرؤ القيس الذي يغتدي والطير في وكناتها على ظهر منجرد قيد الأوابد هيكل وربما كان الفرق بينهما كالفرق بين الترف والضرورة ثم يطلق النار عليه ليعود به إلى معسكره، والاستطراد في التعليق على ذلك المنظر مؤلم جداً... لأن تلك السيمفونية منتج حضاري استحضر كشاهد زور على ممارسة غير حضارية باختصار.
|
|
ما نراه من تركيز على الموروث دونما تمييز يفقدنا هويتنا الثقافية الأصيلة التي قامت عليها حضارات كبرى في هذا العالم، وعلى سبيل المثال هواة تربية الصقور منتشرون في كل أوروبا واليابان وأواسط آسيا ولكنهم لم يتخذوا هذا النمط للتفاخر والتميز فيما بينهم ولم يخصصوا فضائيات ولا مجلات وإن كان هناك شيء من هذا فيقدم خدمة علمية لا أكثر... إن التفاخر غير الموضوعي بين القبائل العربية في موروثنا يجعلنا في حرج أمام الآخرين المتمدنين، إذ لا يمكن تفريغ القبيلة العربية من مضامينها وقيمها الأخلاقية في إنصاف الآخر والتعايش معه في طريقة تكاملية والكارثة الكبرى أصبحت الناقة المزيونة والقصيدة الشعبية وبيوت الشعر دليلاً على معايير الانتماء والأصالة والناموس وأصبحت التظاهرات الشعبية وما يتخللها من مزايدات وتفاخر دليلاً على قوة انتماء الفرد لمجموعته الذين يجب أن يلوي لهم عنق الأنظمة والقوانين حتى يصدر في مجالسهم وإلا لم يكن فيه خيراً... بينما تجاهل الناس أن العروبة والأصالة والمواطنة قيمة أخلاقية تفرض عليك العدالة والمساواة بين الناس، وركزوا على الدماء والحروب في قصائدهم وتجاهلوا ثقافة التسامح والمروءة واحترام الجار ونجدة الملهوف وإطعام المحتاج وما في الفروسية من قيم حتى سيطرت العصبية في التسويغ للمخطئ والمعتدي في قضايا كانت الجاهلية تعد دم من يقترفها مهدراً حفاظاً على منظومة الأخلاق العربية.. فأين نتجه في ثقافة الفنجال الأول ورأس المجلس.. صدقاً لا أدري!!!!!
|
|
وضع دعبل الخزاعي أبياتاً ترسم المعيارية لمن أراد الفخر فقال يهجو قوماً يكثرون من الافتخار بأن آباهم كلم الذئب:
|
تهتم علينا بأن الذئب كلمكم |
فقد لعمري أبوكم كلم الذيبا |
فكيف لو كلم الليث الهصور إذاً |
أفنيتم الناس مأكولا ومشروبا |
هذا السنيدي لا أصل ولا طرف |
يكلم الفيل تصعيداً وتصويبا |
يشير دعبل إلى غلام من بلاد السند يركب فيلاً ويقوده كما يشاء في صورة تثبت أن الافتخار بالحديث مع حيوان كالذئب لم يكن موضوعياً ولا محدداً بقواعد أخلاقية، وهو أشبه بغناء نشاز لا يطرب إلا صاحبه.. إن المعايير الحقيقية للصدارة تبرز من خلال المقارنة بين رجلين ضمهما مجلس واحد... أحدهما أبوه كلم ذئباً والآخر أبوه اكتشف البنسلين، وحينما نجد آلاف القصائد في ناقة من كلم أبوه الذئب بينما يستشهد كل يوم عشرات من أبنائنا لا يعرف أحد أسماءهم نُدرك أننا في ظل المعايير المزيفة بحاجة إلى إعادة النظر في كثيرٍ من مفاهيمنا العربية وأساليب حياتنا اليومية ونظرتنا إلى الآخر كائناً من كان.. والله من وراء القصد.
|
|