ونحن على أعتاب أبواب اختبارات نهاية العام الدراسي الحالي تبرز على السطح التربوي ظاهرة متنامية مقلقة لجميع الأطراف ذات العلاقة من طالب، أو طالبة، وولي أمر، وعضو هيئة تدريس، ومسؤول والمتمثلة بظاهرة القيام بشراء البحوث التي يكلف الأستاذ الجامعي طلابه بها، أو...
......الاستعانة بالآخرين ليقوموا بكتابة البحوث عنهم. وهي ظاهرة قديمة جديدة، ولكنها في الآونة الأخيرة تفشت، وأخذت أبعاداً ومنحنى آخر أثرت بشكل سلبي كبير في العملية التربوية على مستوى التعليم الجامعي تمثل في ضعف الناتج التعليمي، كما أنها من جانب آخر أثقلت كاهل أولياء أمور الطلاب. ومن هنا فليس من باب المبالغة القول إن هذه الظاهرة تعد من أهم المشكلات التي تواجه العملية التعليمية الجامعية في المملكة في السنوات الأخيرة.
وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة أصبحت واقعاً مراً لا سبيل لمواجهته، فإنه ما زال لدينا مساحة أو هامش يمكننا من خلاله العمل على تقنين هذه الظاهرة، وتنظيمها، والعمل على الحد منها. وقبل استعراض جملة من الحلول العملية التي ربما تقود إلى احتواء هذه الظاهرة قبل وصولها إلى مرحلة متقدمة يصعب السيطرة عليها سوف نستعرض سريعاً أسباب بروزها بشكل لافت مؤخراً، ومن ثم نتناول النتائج التربوية، والاجتماعية السلبية والمترتبة أو الناتجة عن شيوعها واستفحالها.
هناك العديد من العوامل المتداخلة التي ساهمت في انتشار بل وتنامي انتشارها بقوة عاماً بعد عام وهي لا تخرج عن أطراف أربعة رئيسة متمثلة بالطالب الجامعي، والأستاذ والأنظمة واللوائح التربوية الجامعية.
الطالب الجامعي نفسه له مساهمة مباشرة في ترسخ ظاهرة شراء البحوث من خلال نظرته القاصرة التي يرى فيها أن الهدف الأول والأخير من جراء الانخراط في التعليم الجامعي يتمحور حول فقط الحصول على شهادة تكون وسيلة للحصول على وظيفة وبالتالي نجده على أتم الاستعداد لاستخدام طرق غير مشروعة للوصول إلى هذا الهدف من دون الالتفات إلى محاولة جادة وهو على مقاعد الدراسة الجامعية للتعلم واكتساب مهارات تكون عاملاً مساعداً له حين مغادرته للحياة الجامعية في تحقيق وارتقاء سلم درجات النجاح في مسيرته الوظيفية، ومن هنا نجد أن هذه النظرة جعلته على استعداد في حالة طلب منه إعداد بحث اللجوء إلى بعض مراكز الأبحاث، ونجده يفضل أن يدفع مبلغاً مالياً دون أن يبذل أي جهد. ومرد ذلك أيضاً إلى عدم وعي الطالب الجامعي بأهمية البحث ودوره في تعميق فهمه لتخصصه، وإكسابه مهارة البحث عن المعلومة، وتحليلها وعرضها.
وإضافة إلى ذلك نجد أن شعور الطالب بأن البحث يستغرق وقتاً وجهداً يمكن أن يصرفا للمقررات الأخرى التي هي بدورها تتطلب جهداً تحصيلياً بجعله يرى أنه بدلاً من إمضاء وقت في البحث، والكتابة، وجلب المصادر أن يستعين بمن يكفيه هذا العناء. وبما أن هاجس الطالب اليوم أصبح منصباً في الحصول على الدرجة التي تؤدي إلى النجاح أصبح سلوك هذا السبيل مبرراً لشراء البحث الجاهز، أو الاستعانة بالآخرين ليتولى عملية البحث، والكتابة نيابة عنه، وذلك يسري أيضاً على أولئك النوعية من الطلاب الذين جعلوا من الحصول على معدلات تراكمية عالية هاجساً. ومن هنا نراهم يولون وجهتهم صوب المكتبات والمراكز التي تقدم خدمة كتابة البحوث لضمان ظهورها بشكل أكثر اتقاناً وبالتالي حصولهم على درجات عالية فهي تساهم في الرفع من معدلاتهم التراكمية.
ودور الطالب في تفاقم هذه الظاهرة يمكن ترجمته بكلمات مجملها تدور حول فحوى فكرة ان ذلك نابع في أساسه من عدم تحلي العديد من الطلبة والطالبات الجامعيين اليوم بالأمانة, والصدق، والإخلاص، وكذلك عدم الحرص على الاطلاع وحب التعلم والتثقيف وأيضاً عدم الوعي الجيد بأهمية البحث ودوره الفعّال في مسيرة العملية التعليمية أثناء دراستهم الجامعية، والخوف من خوض تجربة كتابة البحث بشكل مستقل.
والأساتذة الجامعيون لهم نصيب في تعزيز ذلك من خلال قيامهم بعددٍ من الممارسات الأكاديمية الخاطئة المتمثلة في أن العديد من أعضاء هيئة التدريس الجامعيين لا يولون اهتماماً للبحث المقدم لديهم، ولا يخضعونه للقراءة الفاحصة، ونجد أيضاً أن الكثير منهم يقللون من شأن ومقدرة الطالب في المرحلة الجامعية على كتابة بحوث جيدة بأنفسهم. كما أننا نجد أن عدداً لا يستهان منهم يتقاعسون عن القيام بأداء واجبهم على أكمل وجه، كما أن بعضهم ذوو مستويات وإمكانات متواضعة، وآخرون يقومون باستخدامهم الأساليب التقليدية في التدريس، وهناك من يتعامل مع الطلاب بقدر كبير من اللا مبالاة، والتهرب من المسؤولية. كل ذلك حدا بالكثير من الطلاب ومن ورائهم أولياء أمورهم بالبحث عما يغطي هذه النواقص الناتجة عن عزوف الأستاذ الجامعي عن تقديم يد العون والمساعدة والمشورة العلمية التي تخص كتابة البحث العلمي الذي يكلف به الطالب.
ولا يتوقف الأمر على هذه الممارسات الأكاديمية المذكورة آنفاً، وإنما يضاف إليها أيضاً عزوف أعضاء هيئة التدريس عن إرشاد الطلبة الجامعيين إلى أهمية أن البحث العلمي يعمل على توسيع مداركهم، وبناء حصيلتهم العلمية والمهارية، قبل أن يكون البحث مجرد وسيلة لتحصيل درجات، وزد على ذلك أن عدداً كبيراً منهم لا يولي أهمية كبيرة بقراءة البحوث، ومناقشة الطلاب فيما كتبوه مما يكون له انعكاس سلبي يجعل الطالب يلجأ إلى أسلوب شراء البحث، أو الطلب من الآخرين كتابته نيابة عنه لأن الأستاذ في النهاية سيكتفي بمجرد تسليم الطالب ورقة البحث.
وإلى جانب دوري الطالب والأستاذ الجامعي نجد أن النظام التعليمي أدى بدوره إلى تفاقم ظاهرة شراء البحوث، والاستعانة بالآخرين لكتابتها، لأنه لم يولِ البتة عناية بإكسابهم مهارات وأسس مهارات البحث، وهو الأمر الذي ولّد نقص خبرة وتجربة وتأهيل لازم حملوها معهم إلى رحاب جامعاتهم. وذلك أيضاً يعود إلى عدم ايلائنا أهمية كافية بكيفية القيام بكتابة بحث علمي، وعدم وجود مقررات فاعلة تصقل مهارة البحث في التعليم الجامعي، وتؤسس له في مراحل ما قبل المرحلة الجامعية.
وإلى جانب ذلك نجد أن النظام التربوي الجامعي يكرس مفهوماً خاطئاً مفاده أن مرحلة البكالوريوس ليست مرحلة بحثية يلزم فيها الطالب بتقديم بحث رصين متقن، ومن هنا تكرس لدى الطالب أن هذه المرحلة مرحلة تلقين المعلومة، وليست مرحلة ترسيخ مبدأ البحث عن المعلومة وتحليلها، ورصد أبعادها، وتمحيصها.
وبالإجمال يمكن القول إن الأنظمة واللوائح التربوية والإمكانات أدت مجتمعة إلى ترسيخ هذه الظاهرة، فعندما يعاني الطلاب بعض الصعوبات الأكاديمية التعليمية لا يتوفر لهم القدر الكافي من قنوات التوعية.
ومن هنا يلجأ هؤلاء الطلاب وأولياء أمورهم للبحث عن طرق غير مشروعة لمساعدتهم في كتابة البحوث الصفية ومشاريع التخرج.
أما فيما يتعلق بالنتائج السلبية المترتبة على شيوع هذه الظاهرة فيمكن رصدها في عدة محاور يطول أثرها السلبي الأسرة، والمجتمع، والعملية التعليمية في المرحلة الجامعية. إذ تؤدي ظاهرة شراء البحوث الصفية الجامعية إلى استنزاف دخل الأسر، وإيجاد حالة من عدم الاستقرار والتوازن داخل الأسر. والنتيجة الأخرى السلبية تتمثل في تحويل شكل وهدف التعليم عن فلسفته الطبيعية والمنطقية، فوجودها يسهم في توجيه أنظار الطلاب والطالبات باتجاه استخدام طرق غير مشروعة لنيل الدرجات العلمية. كما أن استمرارها يغيب معرفة وتلمس أحد مواطن الخلل في العملية التعليمية لدينا، فهل مصدره تهاون الأستاذ الجامعي، أو إهمال الطالب الذي يعتمد على حقيقة مفادها أنه في نهاية المطاف سيجد من يساعده ويقدم له خدمة كتابة البحث المطالب به.
كما أن من آثارها السلبية التربوية المتوقعة تخريج جيل جامعي يفتقر إلى العديد من المهارات المفصلية المتمثلة في مهارات استخدام وسائل التقنية في البحث عن المعلومات، ومهارة القراءة السريعة، وحسن اختيار المادة العلمية، ومن ثم تلخيص المعلومات. وكذلك مهارات التواصل والتعاون والعمل الجماعي في حالة العمل في فرق عمل مشتركة لإنجاز بحث ما، والأهم في ذلك افتقارهم إلى الاعتماد على النفس في دراسة المشكلات، وإصدار أحكام بشأنها، واتباع الأساليب والقواعد العلمية المعتمدة في كتابة البحوث، والتعود على استخدام الوثائق والكتب، ومصادر المعلومات، والربط بينها للوصول إلى نتائج جديدة، والتعود على معالجة المواضيع بموضوعية ونزاهة.
كما أنه يتوقع أن يتولد من استفحال هذه الظاهرة أبعاد اجتماعية خطيرة متمثلة بنشوء تقليد جديد اسمه هوس، أو موضة شراء البحوث الصفية الجامعية، وسوق جديدة تديرها طبقة من المنتفعين، وربما يتطور الأمر إلى وجود مؤسسات خاصة تعمل على تنظيم هذه العملية مدفوعة في الرغبة من الاستفادة من العائد المادي الكبير الذي يتم جنيه من جراء كتابة البحوث والدراسات.
إن تنامي ظاهرة شراء البحوث الصفية الجامعية والاستعانة بالآخر عند إعدادها يستدعيان تكاتف الجهود سعياً للقيام بخطوات عملية حاسمة تسهم في القضاء عليها، أو على أقل تقدير وقف انتشارها. والحلول العملية المقترحة للتعامل مع هذه الظاهرة يمكن تقسيمها إلى حلول قصيرة الأجل، وحلول طويلة الأجل.
ومن ضمن الحلول قصيرة الأجل التي يمكن الأخذ بها:
أولاً: افتتاح مراكز خدمات طلابية داخل الجامعات، والكليات التي من شأنها تقديم خدمات استشارية تعليمية، وتقديم دروس ودورات تدريبية قصيرة حول كيفية إعداد وكتابة البحوث وغيرها من الأنشطة ذات العلاقة.
ثانياً: توجيه أساتذة الجامعات لاستخدام طرق ووسائل تدفع بالطالب حتى يقوم بكتابة البحث بنفسه. فعلى سبيل المثال يمكن أن يطلب من الطالب القيام بإلقاء بحثه الذي كتبه في القاعة، وكذلك يمكن للأستاذ استخدام التقييم المستمر بحيث يطلب من الطالب تزويده بتقارير دورية كتابية وشفوية عما أنجزه في بحثه.
ثالثاً: إنشاء جائزة علمية للبحوث الطلابية رغبة في تحفيزهم وتشجيعهم على كتابة بحوثهم بأنفسهم.
رابعاً: التشديد على الأساتذة بضرورة قراءة بحوث الطلاب، وتزويد الطالب شفوياً وكتابياً بملاحظاتهم، وتعليقاتهم حتى يشعر الطلاب باهتمام الأستاذ ومتابعته لما كتبه. ويمكن أن يقوم الأستاذ بتوزيع الطلاب إلى مجموعات بحيث تشترك كل مجموعة في كتابة بحث واحد. وهذا الاقتراح يحقق هدفين اثنين: يعمل على تخفيف العبء على الأستاذ لأنه لن يقوم بقراءة عدد كبير من البحوث، ومن جانب آخر يسهم في تحقيق هدف تربوي يتمثل في إشاعة روح العمل الجماعي، وأيضاً يمكن أن يستفيد الطالب غير المتمكن من كتابة البحث من العمل مع زميل له لديه معرفة، وقدرة على كتابة البحث. ويمكن للأستاذ الاستفادة من معطيات التقنية الحديثة بحيث يطلب من كل مجموعة التواصل معه عن طريق البريد الإلكتروني.
خامساً: توجيه الأساتذة بالعمل على التنسيق فيما بينهم بحيث لا تتم مطالبة كل واحد منهم الطلاب بكتابة بحوث رئيسة وكبيرة في الفصل الواحد. ويمكن أن يتولى عملية التنسيق هذه رئيس القسم الذي ينتمي إليه الأساتذة.
سادساً: إقرار مادة في المرحلة الثانوية مختصة في البحث ليكون الطالب الجامعي مهيأً للعمل البحثي.
سابعاً: تشكيل جهاز رقابي خاص للتصدي لهذه الظاهرة عن طريق القيام بجولات ميدانية ابتداءً من منتصف كل فصل دراسي لتشمل مراكز الخدمات الطلابية، ورصد الإعلانات المختلفة عن خدمات كتابة البحوث غير النظامية، وغيرها من الخدمات الأخرى، وإحالة المخالفين إلى الجهات ذات الاختصاص.
ثامناً: جعل البحوث ذات طبيعة استقرائية واستطلاعية تستهوي الطلاب.
تاسعاً: العمل على تثقيف الطلبة الجامعيين بأهمية البحث.
عاشراً: صرف مخصصات للطلبة في مرحلة التخرج لمساعدتهم في إعداد بحوث التخرج والتنقل بين المكتبات وشراء ما يلزم لإتمام بحوثهم.
وإلى جانب هذه الحلول القصيرة الأجل هناك أيضاً حلول مقترحة طويلة الأجل تتمثل فيما يلي: نحن بحاجة ماسة إلى القيام بدراسة ميدانية علمية موسعة تساعد على رصد هذه المسألة، والتعرف على أسبابها، وطرح الحلول المناسبة لها. وهذه الدراسة يجب أن تعمد إلى استخدام معايير علمية للوصول إلى جملة من الحقائق التالية: القيام بدراسة إحصائية تظهر اعداد الطلبة الذين يقومون بشراء البحث أو يستعينون بالآخرين عند إعداده، وتقدير حجم المبالغ المالية، أو متوسط المبالغ التي ينفقها الأفراد والأسر على شراء البحوث الجامعية، ومحاولة تلمس أسباب هذه الظاهرة، هل هو نتيجة قصور في العملية التعليمية، أو سوء المرافق والإنشاءات، ونقص التجهيزات التعليمية، أو أن الفروق الفردية تؤدي دوراً في هذه القضية، أو ضعف التأهيل العلمي للأستاذة وهل يعود ذلك إلى خلل في بناء المناهج، وطرق التدريس، وغيرها من الأسباب.
كما أننا بحاجة ماسة إلى العمل على الرقي بمستوى التعليم العام أو الجامعي في المملكة بما في ذلك إعداد المعلم، والمنهج التعليمي، والبيئة التعليمية، والأجهزة والمعامل، والوسائل التعليمية. كما أننا يجب ضمن حلولنا طويلة الأجل للتصدي لهذه الظاهرة أن نعمل على المزيد من أجل إعادة النظر في مناهج طرق البحث المعتمدة في المرحلة الجامعية وما فوق الجامعية، وأيضاً تزويد مكتبات الجامعات بالمزيد من الكتب والدوريات المتخصصة، وتوفير الدعم المادي المناسب لتمكينها من الاشتراك في قواعد المعلومات التي توفرها مراكز البحوث العالمية من خلال الإنترنت، وإضافة إلى ذلك يمكننا أن نقوم باستحداث مراكز للترجمة داخل الجامعات لمواجهة احتياجات الطلاب، والباحثين وتقديم خدماتها بأجور رمزية.
وهكذا يتضح من خلال استعراض جملة من الحلول قصيرة وطويلة الأجل أنه لابد من توحيد ورص الجهود من قِبل جهات عدة بما في ذلك وزارة التعليم العالي، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة الخدمة المدنية، والمديرية العامة بوزارة الثقافة والإعلام، ووزارة التجارة، والمواطنون أنفسهم طلاباً وأولياء أمور، وذلك يتطلب عملاً واقعياً على الأرض وليس مجرد كتابة تعاميم وخطابات يتبخر أثرها بمجرد جفاف حبرها.
alseghayer@yahoo.com