عندما هدر الشارع الإيراني بالمظاهرات الرافضة لنتائج الانتخابات الأخيرة، أطبقت السلطات في إيران على جميع وسائل الإعلام، وعتَّمت البث المباشر، وأقفلت مكاتب العديد من القنوات المحلية والعالمية، لكن كان للطامحين في الإصلاح نوافذ ومنابر أخرى ترسل خلسة بثاً مباشراً من قلب الحدث في موقع (الفيس بوك - والتويتير) وسواهما من المواقع التي تعكس علاقة الجيل الشاب بالتقنية العصرية، تلك الأجيال الشابة التي تهدر في الشارع رافضة التعصب والجمود والفكر الخميني الساعي إلى تجييش البلاد وتصدير الثورة، فكر الملالي المتحجر الساعي إلى إقصائها عن أحلامها الصغيرة وتجليات كرامتها البشرية، إيران بلد بتاريخ عريق مليء بالطاقات والقدرات والآداب والفنون والمقدرات المادية والبشرية معتقل في أيدولوجية الحرس الجمهوري منذ عشرات السنوات، لكن يبدو الآن أن الشارع الإيراني لم يطق صبراً، ولا يريد سنوات أخرى خانقة من حكم نجاد.
ولعل خطبة المرشد الأعلى لإيران التي لوحت بالدم كحل لعملية الجيشان الشعبي هي بالتأكيد تعكس التوتر الذي تُعاني منه السلطات هناك، ولا سيما من خلال الانقسام ما بين تكتل (رفسنجاني، ونجادي) بالإضافة إلى موقف الإصلاحيين (الموسوي - وكروبي) أنفسهم وشارع ملتهب طامح في التغيير.
وهنا قد لا تنحصر القضية في هذا الصراع بين أقطاب السلطة، أو التزوير في صناديق الانتخابات في المحافظات الشمالية في إيران، بقدر ما هي في إطارها الأوسع تعكس حالة جيشان شعبي عارم، من أجيال لم تعد تجد في ولاية الفقيه الحلم أو الطموح أو النموذج المستقبلي لإيران الغد.
تزامنت الثورة الخمينية عام 1979 مع ظهور المد الأصولي في المنطقة، فكانت أحد العوامل التي أسهمت في تعميم فكر معتم متقولب حول مسلّماته.. رافض شروط المدنية والدولة الحديثة بمؤسساتها وأنظمتها، وظل هذا الفكر وتجلياته يتنامي ويمتد، بل إنه اخترق وهيمن على الكثير من المؤسسات الحكومية والتربوية في الكثير من دول المنطقة، وكأنها عملية إحلال مكثف ضد طلائع الفكر التنويري الذي كان يكابد طريقه مع الكثير من التعثرات، قبل أن تأتي نكسة 67 وتقضي عليه بالضربة القاضية.
يقول الشاعر التركي ناظم حكمت: إن الغد قادم وإن الاستبداد لن يستمر والطغيان مصيره الزوال لأن الشمس تشرق باستمرار كل صباح.
بعد الانتخابات اللبنانية، واختيار الشعب اللبناني مستقبله, كنا نتوقع أن هذا الفوز هو أول مظاهر انحسار الفكر المتشدد التثويري في المنطقة مقابل التيار الإصلاحي العقلاني، ولكن في إيران يبدو أن هناك أيادي خفية تدخلت خلسة لقلب المعادلة.
وظلت أجيال تريد أن تحقق إنسانيتها وطموحها وتنتمي إلى العصر تحتل المشهد الآن، بعيداً عن تسلط الفقيه وبطانته، أجيال ملَّت الشعارات والخُطب النارية والخزعبلات اللفظية المنقطعة عن واقعها، والموغلة في حالة استعداء لمحيطها وتجييش وعسكرة مستمرين يهدران المقدرات والطاقات ويدخلان المنطقة في أنفاق مظلمة ومستقبل ضبابي.