الظهور المستمر إعلامياً يستلزم قرابين ليس لأصحاب الوسيلة الإعلامية بل للجمهور، يصعب على قليل البضاعة (وهم نجوم الساحة اليوم) أن يشد الجمهور ويضمن استمراريته إلا بالعجائب والغرائب والفبركات الفكرية والانتحارات النجومية، يجب عليه أن يقول أشياء قد لا يؤمن بها فالجمهور عاوز كدا فيتحول هو إلى مدعو.
من سلبيات الظهور المستمر التخشب والتكلس وتكرار الكلمة وتشنيف الآذان، وماذا يضير المفكر أن يكون من أصحاب الحوليات ويستريح المدد الطوال كمقاتل يلتقط أنفاسه ويعكف على البحث والدرس والتحصيل وقراءة خطابه من جديد فحصاً وتدقيقاً ورؤية مشروعه من مكان آخر غير المنبر والشاشة والمذياع، ليعود بما ينفع الناس بدلاً من الارتجال والمواقف المتناقضة، ثم أيضاً هل يجب على كل نجم أن يكون له كلمة في كل موقف ورأي في كل حدث وتعليق على كل واقعة في إقصاء للتخصص وأهله؟
وفي ظل هذا الزخم لم يعد لطرح المصلح الديني نور ولا المصلح الثقافي منطق ولا الاجتماعي حرارة، لم يعد الشأن كما في السابق بحيث لا ينتقل لمنطقة الضوء إلا من اقتحم العقبة سوى النزر اليسير من الطفيليات التي تؤكد القاعدة، ففي اليوم الواحد يخرج في الفضائيات وغيرها من الوسائل من يتلقون الاتصالات المفتوحة ويجيبون عن كل المحاور في كل مجالات الدنيا والآخرة بلا هدى ولا كتاب منير، ومن هنا أضحى التخلف يبنى على العلم المزيف لا على الجهل وهو أشد حالات التخلف في القديم، لا يشار إليك بالبنان ولا تصبح نجماً إلا إذا كنت في فقه الشافعي أو في حفظ البخاري أو في دهاء أبي حامد الغزالي أو فلسفة ابن رشد أما اليوم فالنجوم أعصى على العد والبضاعة مزجاة.
إن للإعلام جاذبية والمجتمع يؤز على الظهور، وكل ظهور ولا شك له خطاب وكل خطاب له منهج فكري وعلمي، فإذا تعجل المثقف بالظهور وهو لا يدري ما يريد وما هو المنهج المناسب لما يقول، أو أنه لم يتأصل في المنهج فإن العاقبة تحولات فكرية غير معقولة تتم في السر والأحاديث الخاصة فأنى له الفاعلية وهذا هو اليوم الغثاء والجعجعة والضبابية المطبقة.
إن وهج الضوء والمنبر والكاميرا تفقدنا كثيراً من التألق والجودة وإن أمدتنا بالبريق واللمعان. في المؤتمر الدولي الأول للتربية الإعلامية جاءتني دراسة عبارة عن إهداء من مكتب التربية العربي لدول الخليج بعنوان (الثقافة: سباق الورقة والشاشة) استعرض فيها الدارس رحلة الثقافة مع وسائل نشرها بدأ بالصور المرسومة بعناية في الكهوف إلى الصور المتحركة في شاشات التلفزة وتحدث فيها عن الانفجار المعرفي، وهنا أرى أن هذه بداية مشاركة الجميع ومن زاوية إبداء الرأي سنقول كما يقول غيرنا: إن هذه ظاهرة صحية ولكن المشكل هو خلفيات المشاركين ونوع الموضوعات، والأدهى والأمر صاحب الموضوع الأصلي لقد أضحى التخصص كلمة تقال لا ميثاق يحترم فأتى الكثيرون بالعجائب، لا شك أننا نطمح للموسوعي ولكننا أيضاً نشنأ المسوخ الفكرية والأطروحات الهجينة.
هذا المقال لا يتناول أشخاصاً بل يؤنب الضمير الجمعي ويتسلل إلى داخلي وداخلك هل نحن بحجم ما نطرح من موضوعات؟ هل بذلنا الجهد اللازم للتعبير عن الحقل الفكري الذي ننتمي إليه وقبل كل شيء هل نحن نعني ما نقول ونحمل مبدأ أم أننا نلقي كلمتنا وننام ملء جفوننا منتظرين أن يسهر الناس جرها ويختصم؟!
هل يقتات الهم الثقافي من أعصابنا ومشاعرنا وتلافيف أدمغتنا هل نحن رؤوس فكر ونخوة أم بطون بوفيهات ووجوه شهرة لقد أعمانا الضوء كثيراً؟
ذكر الغزالي في (غرور الخلق أجمعين) أصنافاً للمغرورين من علماء وعباد ومتصوفة، وذهب إلى أن عظيم بلائهم حب الشهرة،
إن الخمول وعدم الذكر أي عدم الظهور مطلقاً ليس هو غاية ما نصبو إليه، بل المقصود أننا نريد القربة المملوءة ماء لا القربة اليابسة، ثم أيضاً ليس من شروط أخذ الأفكار أن يكون منتجها وجها إعلاميا معروفا بل قد يكون العكس تماماً.
إن البعض منا لا يطيق عن الضوء صبراً لا يحتمل أن ينصرف إلى كتابه وبنائه الفكري والعلمي والعبادي والأسري والاجتماعي ويكتفي بالذهاب والإياب من عمله إلى سوقه إلى مسجده إلى أن يشتد عوده، وهنا وبكل تأكيد سيتبعه الضوء ويسأل عنه الناس فلديه شيء ذو بال وحينها يلام إذا لم يشارك المجتمع همومه ويلام إذا كتم ويلام إذا اعتزل مصالح قومه.
إن لديك الكثير لتفكر فيه وتعمله وأنت خالياً.
نحن بحاجة إلى الخبز أكثر من حاجتنا للكعك.
تركي بن رشود الشثري
t-alsh3@hotmail.com