كانت الحكومة الإيرانية تفخر بمظاهر الديمقراطية التي تعتبرها من أعظم مكاسب الثورة الخمينية ولا زالت، وهذا من حقها. غير أن ما رأيناه من انقسام في الشارع الإيراني وردة فعل الحكومة تجاهه والمتمثلة في القمع بقسوة للمتظاهرين من مواطنيها الرافضين لنتائج الانتخابات، قد ذكرنا بتلك المشاهد التي لازلنا نتذكرها أثناء مظاهرات وثورة أطفال الحجارة في فلسطين على يد قوات حكومة الكيان الصهيوني، والتي هي كذلك تتفاخر بديمقراطيتها التي تحتكرها لشعبها المختار وتمارسها على طريقتها. وعلى أي حال فما أنا بصدد الكتابة حوله فيما يتعلق بما حل في إيران، ليس هو من قبيل النقد للحكومة الإيرانية أو الشماتة بأي حال من الأحوال. سأحاول في الأسطر القادمة إلقاء الضوء على العديد من النقاط التي أرى بأن فيها إيحاءات ونذراً لأمور قادمة ينبغي لنا أن نتعمق في النظر فيها لاستلهام مدلولاتها بشكل مبكر. وهي في ذات الوقت تعطينا دروساً يجب أن يستفيد منها الجميع وفي مقدمتهم الحكومة الإيرانية وجميع القوى الإقليمية وتحديداً في الشرق الأوسط.
لقد سمعنا وبكل قوّة وحدّة تكرار أقطاب النظام الإيراني وفي مقدمتهم خامئني ورافسنجاني ونجاد وهم يرفضون التدخل الأجنبي في الشأن الإيراني وتأليب الشعب ورموز المعارضة عليهم، بل وذهبوا بعيداً إلى التهديد بالرد على هذا التدخل. وأستطيع أن أؤكد هنا أنه من الصعب جداً أن تعترف الحكومة الإيرانية في مثل هذا الظرف بوجود هذا التدخل لو لم يكن واقعاً بالفعل وبحجم مؤثر وله ما بعده. وعلينا نحن، وأقصد هنا جيران إيران والقوى الإقليمية حولها، أن نعي هذه الحقيقة ونحسب لها حساباتها ونتعامل بناء على اعتقاد ويقينية وجودها. وللتذكير فقط، ومن خلال استقراء غير بعيد في عمق التاريخ، فإن هذا التدخل من الأجنبي في إيران، وهي تلك الدولة الإقليمية الكبيرة، كان أحد أسباب نجاح الثورة الخمينية وأقوى عوامل إسقاط الشاه آنذاك ووصولها إلى الحكم. وهنا فإنني أقول إنه يجب أن تكون المواقف راسخة ومبدئية في مثل هذه الأمور، وأذكر النظام الإيراني أن حكم الاستقواء بالأجنبي بالأمس هو حكمه اليوم. وما يعنينا هنا أن نوحي بأن الكأس التي سُقي بها الشاه قد حان الوقت ربما ليشرب بها غيره.
ولنا كذلك أن نذكّر الحكومة الإيرانية، ما دامت جربت وذاقت وبال التدخل في شأنها الداخلي، أن تتوقف عن التدخل في الشئون الداخلية للآخرين. فما تراه إيران حق لها بعدم التدخل في شأنها الداخلي، وهذا بكل تأكيد أمر لا مراء فيه، هو كذلك حق لجميع الدول عليها مراعاته واحترامه بالشكل الذي يفرض على الآخرين مبادلتها هذه السياسة. فمبدأ المعاملة بالمثل هو كذلك مبدأ أصيل وراسخ في التعاملات الدولية. إن مما أوحت به المظاهرات الأخيرة في مدن إيران المختلفة أن الجبهة الداخلية الإيرانية ليست بتلك الصلابة التي اعتقدها الكثير ممن تناول الملف الإيراني بالدراسة أو عُرف بتعاطي الشأن الإيراني والاهتمام به. وهذا أمر فاجأ الكثير وفي مقدمتهم الأمريكان وباعترافات بدأت تظهر للعلن بشكل جلي نتيجة لما شاهدوه في الشارع الإيراني وبين من كانوا يحسبون على أنهم خلصاء الثورة وحماتها.
إن هذا له دلالاته المنطقية على أنه سيتفاقم إلى درجة أكثر حدة وأفدح خطورة عندما تضاف إلى قائمة الحسابات المتعلقة بأمن إيران واستقرارها السياسي الداخلي مطالب تلك الأقليات العرقية والطوائف الدينية الأخرى المهمشة في إيران والتي تصل نسبتها مجتمعة إلى النصف من تعداد الشعب الإيراني وربما أكثر في غياب إحصاءات دقيقة وشفافة. فهذه الأقليات في عمومها ليست على وفاق مع الثورة منذ بداياتها بل إن من بينها من صارحها العداء بشكل مبكر. ومن المؤكد أن الخطورة ستزداد وإلى حد كارثي على إيران فيما لو تم استهدافها من خلال هذه المفاصل الخطرة وتم تغذية هذه المطالب أو تبنيها من جهات خارجية إقليمية كانت أو من بين تلك الدول الكبرى التي اعتادت توظيف مثل هذه الثغرات والدخول منها. إن الحقيقة المنبثقة اليوم والتي نشاهدها جلياً في الشارع الإيراني ومن أبناء الثورة وأحفادها، توحي بدرجة كبيرة من الخطورة المتمثلة في تفاقم هذه الثغرة التي سيلج منها بكل تأكيد العديد من محترفي هذه اللعبة التي عرفوا بإجادتها.
وفي هذا الخصوص فإنني لن أفوت الفرصة للإيحاء لجميع العرب دولاً أو أحزاباً أو أقليات، ممن راهنوا على البعد الإيراني والارتباط به أو الدوران في فلكه والاستقواء به، فأهمس لهم بأن لا يوغلوا بالذهاب في هذه السياسة بعيداً، وخصوصاً إن كان هذا على حساب البعد العربي والالتزامات الحتمية تجاهه. ولست هنا من دعاة القطيعة ضد إيران ولن أكون كذلك مطلقاً، غير أنني ادعوا إلى الموازنة بين قطبي المعادلة وأن لا يُقدّم المهم على الأهم، وأن نعي أن هناك الجار ذي القربى قبل الجار الجنب، ولكل منهما حقوق وعليه واجبات.
* أستاذ القانون الدولي ورئيس مركز الدراسات والبحوث بكلية الملك خالد العسكرية