Al Jazirah NewsPaper Saturday  04/07/2009 G Issue 13428
السبت 11 رجب 1430   العدد  13428

سحاب
اللغة والثقافة (1-3)
د. عبدالإله عبدالله فهد المشرف

 

أعشق الحرف غير أني يتيم

غالهُ الدهر فاستباح عرينه

فامتطى صهوة الخيال وولّى

يرقب التلّّ فوق ظهر السفينة

لم يجد في الربى السفينة نبعاً

فاكترى الماء واستعار معينه

عاذلي والحروف سيفٌ صرومٌ

وسلامٌ ورهبةٌ وسكينة

ربما ترفع الحروف بنيها

أو ترى البعض للحروف رهينة

اللغة هي لسان الثقافة وعنوان الحضارة وترجمانها، وهي القناة التي من خلالها تنتقل العلوم من الأمة وإليها وفيها وعنها، وهي وعاء الفكر وميدان الإبداع، واللغة كما يراها علماء اللسانيات وعلماء النفس (خاصيّة فكرية لفظية تحتوي على قواعد صوتية وصرفية ونحوية معقدة إلى حد كبير جداً، تُمكن الإنسان من ربط وبناء عدد لا نهائي من التراكيب اللغوية المتنوعة، كما تدل على أنه ليس لدى أي من المخلوقات الحسية الأخرى لغة حقيقة تتوفر فيها جميع الصفات التي تتوفر في لغة الإنسان؛ مما يشير إلى وجود خلفية لغوية فطرية زوّد الخالق سبحانه بها الطفل عند ولادته؛ لتساعده على تعلّم اللغة واستخدامها)، وهي كما يراها علماء البيئة والآثار (وسيلة يبتكرها الإنسان لكي يتكيف مع بيئته من خلال تطوير أساليب الاتصال والتخاطب)؛ فهي ابنة البيئة ونبتتها؛ ولهذا فإن كلمات اللغة ومفرداتها ما هي إلا تراكيب بيئية مجردة ذات أبعاد مفاهيمية متعددة، يتوازى عمق المفهوم بها مع عمق المفردة أو الكلمة في البيئة وتتسق هذه التراكيب اللغوية فيما بينها لتؤلف بناءً وإطاراً ثقافياً يؤثر في النظرة العامة للفرد وللمجتمع والكون والحياة.

والارتباط بين اللغة والثقافة للفرد أعمق وأشمل من أن يقاس بالمعايير البحثية التجريبية، ومن المتعذر تجسيده في عبارات إنشائية، غير أنه من الممكن تلمس بعض من آثار هذا الارتباط من خلال الاستقراء والتحليل، ولعل أظهر مثال للتلاحم بين لغة المجتمع وثقافته تلك الفروق في شمولية المعاني بين الكلام المُترجم من لغة وبين المعنى المفهوم في لغة لمجتمع آخر، بمعنى مدى التمثيل الحقيقي للنص المترجم عن النص الأصل، حيث تشير الدلالات إلى أن عملية الترجمة في أحسن أحوالها، ما هي إلاّ نقل للشكل الظاهري للكلمة دون سبر حقيقي للبعد البيئي لها، ومن هذا المنطلق فإنه من الصعوبة أن تعطي الترجمة المفهوم المتكامل للفكرة بجميع أبعادها وزواياها كما هي في المجتمع الأصل، ويتباين حجم الفرق في نقل المعنى بين لغتين حسب تباين الفروق بين الثقافتين. وبشكل عام فإن الترجمة الحقيقية لمفهوم اجتماعي محدد من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية لا تمثل في أحسن حالاتها أكثر من 70% من المعنى الحقيقي بجميع أبعاده وإيحاءاته للمفهوم في لغته الأصل.

واللغة بمنطقها العلمي والأدبي نبض عميق في الحس والعقل يتفاعل مع المشاعر والأفكار فيؤثر فيها، فتصطبغ بذلك شخصية الإنسان في سلوكه وفكره ويعطي إيحاءات وإيماءات لا يسبر غورها إلاّ من ارتوى من معينها، وترعرع بين غصونها وهضم لبها وقشورها، وهذا لن يكون في الغالب إلا ابن جلدتها وبيئتها. يقول الأستاذ محمود شاكر في معرض تعليقه على فِريَة الموضوعية: (أفمستطيع هو (يعني الباحث في العلوم الإنسانية) أن يتجرد من سلطان اللغة التي غُذِيَ بها صغيراً، وبها صار إنساناً ناطقاً بعد أن كان في المهد وليداً لا ينطق؟ أفمستطيع هو أن يتجرد من سطوة الثقافة التي جرت منه مجرى لبان الأم من وليدها؟..)، ولعل من أسباب عدم نجاح أجهزة الترجمة الآلية بالشكل المطلوب يعود إلى ذلك الثراء الديناميكي الكامن في اللغة الإنسانية، هذا الثراء الذي يؤدي إلى الإبداع المستمر في استخدامنا اليومي للغة كنسق معرفي إنساني اجتماعي متداخل يتعذر معه مكننة اللغة وميكنتها، ومن الأمثلة الواضحة التي يدركها الإنسان بحسه الفطري البسيط على ارتباط اللغة الوثيق بالثقافة والشخصية هو ترجمة الشعر والأدب؛ فهل تذوق الفرد العربي للشعر العربي كتذوقه للأدب الإنجليزي، والعكس صحيح أيضاً؟ ألم يقل الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إن من البيان لسحراً)؟ أين يكمن سحر البيان..؟ أهو في المعنى الظاهر.. أم الباطن.. أم هو في جمال اللغة وبلاغة الأسلوب ونسق الكلم وعمق المعنى؟ مما قد يسحر لب السامع ويمتزج بمشاعره وأحاسيسه؛ فيحركها؛ فيخلق في الخيال صورة أجمل من الصورة الحقيقية للموصوف كما يصنع السحر بالبصر.

فاللغة كائن حي، له روح يتشربها البدن من أول قطرة حليب تصل إلى حلق الطفل الرضيع؛ فتنمو معه وتمتزج بكيانه وفكره، وتؤثر في مشاعره واتجاهاته؛ فتسهم بفعالية كبيرة في التأثير على طريقة تفكيره، وطبيعة شخصيته، وهويته الثقافية والاجتماعية؛ ولذا فإن اللغة على المستوى الفردي تعكس الهوية الشخصية، وعلى المستوى المجتمعي تعكس الثقافة المجتمعية، ولن يتمكن مجتمع من القيادة والريادة إذا كان يقتفي أثر علوم غيره بلسانهم، ويقتات من فتات طعامهم مستعيناً برجالهم، ويشرب من بقايا سواحل آبارهم مستخدماً عتادهم.

إن اللغة في حقيقة الأمر تعتز بشموخ أهلها بها ويعتزون برقيها، وتضعف بضعفهم ويضعفون بضعفها، والتأريخ يشهد بأن الأمم التي اعتزت بلغتها، وأكرمت لسانها فجعلته الناطق بالعلوم والتقنيات، والمتحدث في الإدارة والسياسة، والفيصل في القوانين والأحكام، والمستضيف للزائرين والمرضى والتجار، واعتبرت استخدام لغة أخرى في تعاملاتها اليومية (دونما حاجة ضرورية ولفترة مؤقتة) هو خيانة وطنية، وتقليد أعمي، هذه الأمم هي فقط من يحصل على القيادة والريادة دون حاجة إلى التخلي عن ثقافتها وهويتها.

Amusharraf1@Riyadhschools.edu.sa

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد