سقطت الرؤية الشمولية في العصر الحديث، لكن ما زال هناك من يعيش في كنفها، ويعتقد واهماً أنها هي الحقيقة، بينما يعيش بقية العالم في الضلال، ويسير إلى المجهول الذي مآله السقوط ثم العودة إلى الحقيقة التي لا تزال تعيد إنتاج تجاربها في صور متكررة منذ مئات السنين، على الرغم من أن التاريخ الحديث قدَّم أدلة واقعية على فشل النظام الشمولي، وعلى أن الحياة تتوقف إذا لم تستقر بداخلها روح التطور، وتأتي تجربة قادة دول عدم الانحياز في العمل الوطني: (نهرو وتيتو وعبد الناصر) أمثلة حية على أفضل الخيارات لدفع عجلة التقدم إلى الأمام
... اختار تيتو وعبد الناصر النظام الشمولي، وذلك من خلال أيديولوجية قومية أمنية شمولية تضع أمن النظام قبل مصالح الوطن والناس، بينما اختار نهرو النظام الديمقراطي والحرية الاقتصادية المقيدة بمصالح الوطن، ولم يحتج الأمر إلى أكثر من خمسة عقود حتى ظهرت النتيجة ناصعة في أرقام النمو الاقتصادي والعلمي، وفي نتائج التجربة الوطنية المترتبة على نظرة زعيم تلك المرحلة، فالهند تقدمت عشرات المراحل إلى حيث مصاف الدول التي تجاوزت مرحلة الدوران حول قضايا فقدت فعاليتها في العصر الحديث، كذلك أدت المغالاة في استراتيجيات الأمن وفرض الحصار على الفكر والثقافة إلى نزيف مستمر للطاقة المبدعة، وإلى خلق حالة من عدم الثقة والشك المتبادل بين السلطة والمجتمع، مما عطل القدرات وأنهى كل المحاولات التي تبحث الإنجاز والحركة إلى الأمام.
أرسى نهرو القواعد الديمقراطية وفتح للمجتمع بمختلف اتجاهاته في أن يشارك في بناء الهند، وفي تطوير عقل سياسي قادر على خلق وحدة وطنية همها الأول صهر الخلفيات المتناحرة في منهج هدفه الأوحد بناء الهند كدولة عظمى في آسيا والعالم، ولم يكن الطريق إلى الهدف الأسمى خاليا من الصعوبات، إذ تتميز الهند بتنوع ديني وعرقي مختلف، ويتحدث سكانها عشرات اللغات ومئات اللهجات المختلفة، كما يزخر إعلامها الحر بآلاف المجلات والجرائد اليومية، وعلى الرغم من ذلك نجحوا في تجاوزها، ولم تضيع الحكومة الهندية مصادرها وثروتها القومية في مراقبة ما ينشر فيها من أفكار، وفي متابعة المفكرين والعلماء، في حين أضاعت تجربتا نهرو وعبد الناصر مستقبل بلادهما في فتح ملفات الأفكار وسجن المثقفين وسحق المعارضين دون رحمة، فكانت النتيجة انهياراً تاماً للتنمية وللثقة بين فئات المجتمع، بل قاد ذلك التعسف في مواجهة الأفكار المعارضة إلى ترويجها وازدياد شعبيتها، وهو ما قد يدل للمرة المليون على أن لكل فعل ردة فعل مضادة لها في الاتجاه متساوية لها في القوة، وهذا هو على وجه التحديد إحدى أزمات الدولة العربية في العصر الجديد.
وقبل ذلك أدخل الزعيم التاريخي غاندي ثقافة اللا عنف إلى عقول الهنود، وإلى أن الهندي له حق التعبير عن حقوقه، وأن السلام هو الطريقة المثلى للحياة السياسية وللعمل من أجل التغيير، التي يجب أن تحرسها القوانين العامة ويحميها القانون، وبالفعل استطاعت الهند بفضل غاندي التعامل مع أزماتها السياسية والاقتصادية من خلال فلسفة السلام، وكان التحدي الأعظم في تجاوز الطبقية التي تعتبر من المقدسات التي لا يمكن التفريط فيها، لكنهم من خلال حرية التفكير والعمل الاجتماعي استطاعوا تفكيك جذور تلك الطبقية المذلة لكرامة الإنسان.
كذلك وضعت الهند منذ البدء مقولة: (بناء الهند بأيدي الهنود) شعاراً لمبادرتها الوطنية، كما وضعت تكنولوجيا المعلومات شعاراً لحملتها الوطنية، وذلك من أجل تسهيل مهمة نقل المعرفة إلى الهنود، فقد استفادت الهند من القوة البشرية الهندية المتعلمة، فوجهت مبادرتها تجاه إنشاء صناعة برمجيات هندية قوية، وإلى دعم اقتصادياتها بلا حدود، مما جعلها في مقدمة الدول المصدرة للتكنولوجيا، وفي مقدمة البلاد التي تبحث عن مكان دائم لها في التاريخ الحديث.