الوباء الذي انتشر في كل أو جُلِّ أطراف هذا الكوكب وصار موضع اهتمام وتحذير حكوماتها وسلطاتها المعنية، وأُعلن كونه وباءً عالمياً صار مصدر قلق كل نفس وهاجس كل خاطر، ومع أنه قد مرَّت في الأعوام القليلة الماضية كثير من الأوبئة مثل إنفلونزا الطيور،
فقد وقى الله من شرها، والسبب في ذلك أنها تختلف في وسيلة انتشارها عن انتشار الوباء الحالي اختلافاً جوهرياً لسرعة انتشار الأخير واتساع دائرته بسبب تعذر أو استحالة السيطرة على وسيلة انتقاله إلا بوساطة الدم أو الطعام والشراب أو ملامسة المريض فحسب بل ينتقل بملامسة الهواء الذي يمر به أو استنشاقه، ولم يُجدِ في منع ذلك ما اتخذ من احتياطات في إنقاذ البلاد التي اتخذتها من الإصابة به. والمخيف في هذا الأمر أنه مما تتسع دائرته ولا تضيق، ويزيد عدد المصابين به ولا يقل، ونحن نشهد في المملكة أنه لا يمر يوم إلا ويُعلن فيه عن اتساع دائرته وزيادة عدد المصابين به، وقل أن يمر يوم دون أن تحمل الأخبار احتلاله مواقع جديدة وازدياد عدد المصابين به. فإذا كان بسبب انتشاره أو انفجاره في الوقت الحاضر مخالطة مصاب لسليم أو اقترابه منه وإن ضمهم مكان عمل أو لقاء طريق أو وسيلة نقل، فإن موسم الحج والعمرة يختلف عمّا تقدم اختلافاً كبيراً، إذ سيفد إلى مكان واحد ملايين من البشر ولفترات مختلفة من الزمن وعلى حالة من التزاحم تبلغ حد الالتصاق والأنفاس متلاحقة والتسابق والتزاحم هي الصفة الممارسة. يتكرر ذلك في السعي والطواف ورمي الجمار والوقوف بعرفات والتجمع في وسائل النقل، وقد تطول إقامة بعض الوافدين من أيام إلى أسابيع. هذا العدد الكبير يلتقي بمثله من حجاج الداخل الذين لا يجدون مخرجاً من الاختلاط بكل هذا العدد والتزاحم معه. وليسمح لي القارئ أن أفترض الأسوء من باب أن الحازم من يحتاط لما يُحتمل أن يقع لئلا يقع، لا لما يتحتم أن يقع إذ لا حيلة في وقوعه. إن عدد حجاج الخارج يصل المليون ويصل عدد المعتمرين إلى ضعف ذلك أو يزيد، فماذا لو افترضنا أن ليس هناك من بين هؤلاء الملايين من الحجاج والمعتمرين إلا نسبة ضئيلة من المصابين لا تتجاوز نصف واحد في المائة ممن ظهرت عليهم الأعراض أو ممن لا تزال حالتهم في طور الحضانة، فذلك يعني وجود عشرين ألف مصاب أو ما هو قريب من ذلك سينتشر هذا الوباء منهم إلى أضعاف عدد حامليه ممن سيعودون إلى بلادهم التي تغطي أطراف هذا الكوكب. فماذا سيكون الحال - لا قدر الله - وماذا ستكون نظرة العالم لنا وإلينا؟ ثم كيف سيكون حال المواطنين في هذا البلد والمقيمين فيه من الوافدين، فهل من المستحيل أن نرى كل البلاد الأخرى أو بعض البلاد الأخرى تمنع دخول السعوديين إليها أو من يرغب المجيء إليها من بلاده، ولو فعلوا ذلك فهل سيكونون علينا من المتجنين؟ وإذا كان مما يمكن أن يفترض في هذا المجال القول أن هناك من الاحتياطات وما سيتخذ من المزيد منها ما يسقط هذا الاحتمال، فإن هذا الاعتراض لا يزيل هذا التساؤل بل ولا يضعفه. ذلك أن هذه الاحتياطات التي اتخذت في بلاد كثيرة - ومنها المملكة - لم تجعل واحدة منها بمنجاة من هذا الوباء.
بعد ما تقدم يأتي جانب جوهري لا يجوز أن يُهمل أو يُغفل بل يجب أن يكون موضع الاعتبار الأول وهو الجانب الشرعي في هذه المسألة الذي يمكن أن يطرح بهذه الصيغة: (كيف لنا أن نوقف فرضاً فرضه الله على عباده وجعله ركناً من أركان الإسلام؟..). وهذا السؤال الاستنكاري سؤال منتظر ومشروع وينبغي أن يكون مراعاً ومسموعاً، وهو ما يركن إليه من يقول أو سيقول بعدم جواز المنع، على أننا نجد إلى جانب ذلك أن الداعين إلى التفكير في هذا الأمر ليسوا - إن شاء الله - أقل خشية لخالقهم ولا أقل رغبة في دخول جنته واتقاء ناره ولكنهم يرون هذا الرأي يسندهم فيه أمران:
الأول: أن الله وهو الخبير بشؤون خلقه الرحيم بهم قد جعل لهم من كربهم فرجاً ومن ضيقهم مخرجاً، وهو المخرج الذي وجده وأخذ به من يؤتمُّ بفعله ويُستنُّ بعمله وهو ثاني الخلفاء الراشدين عمر - رضي الله عنه - لقد أوقف حد القطع عام الرمادة مع وضوح نصه وقطيعة دلالته لأنه أخذ بعلة الشيء لا بمظهره وهو أن قطع يد من يسرق وهو في مكنة أن يجد طريقاً إلى الرزق بعمل مشروع يختلف عن حال من يقدم على ذلك وقد سُدت عليه المنافذ لما يقيم به أوده ويحفظ عليه وعلى من يعول حياتهم، وفعل الشيء نفسه عندما منع المؤلفة قلوبهم من مورد الزكاة، والنص القرآني في ذلك واضح في دلالته لا يحتمل تأويلاً يخرجه عن وجهه إلا أنه أخذ في هذه الحالة بما راعاه في الحالة الأولى من أن مدار الشيء على وجود علته، فإذا انتفت العلة سقط المعلول، ومثل ذلك منعه توزيع أرض السواد على الفاتحين، ومن ذلك منعه الدخول إلى عمواس أو الخروج منها عندما وقع بها الطاعون، ولعل فعل ذلك إعمالاً للحديث الذي رواه البخاري في صحيحه والذي هو أمر بما يعرف ب (الحجر الصحي) في زماننا، وليس أحد منا أو سوانا من هو أكثر معرفة بالإسلام واستشرافاً لمقاصده من عمر ولا من هو أكثر خشية منه لخالقه.
الثاني: أن الدولة السعودية - وفقها الله - قد أخذت بهذا الأمر بتحديدها عدد من يحج في كل عام من كل بلد، وكانت مدفوعة في ذلك ومسوغة ذلك بمطلب سلامة الحجاج والحرص على صحتهم ويُسر تحركهم وانتقالهم، وهذا أمر معقول ومقبول فليس هناك من يجهل ماذا سيكون عليه الحال لو كان الباب مفتوحاً لكل من يرغب الحج كل عام من المسلمين حتى لو افترضنا أنه من سيقبل على الحج منهم في كل عام لن يزيد عن فرد في كل مائة فإن ذلك سيجعل عدد حجاج العام الواحد لا يقل عن ثلاثة عشر مليوناً. وقد قامت الدولة بهذا الإجراء منذ زمن طويل ولم نجد من الدول من قام بالاحتجاج على ذلك ديناً أو سياسة أو قانوناً، فكيف يحرم هنا ما أجيز هناك والداعي في الحالة الحاضرة أوجب.
معالي الأخ العزيز الدكتور عبدالله الربيعة وهو من يعتز به كل مواطن أو ينبغي أن يعتز به، كفاءة علمية وموهبة مهنية أولاً وبكونه وزيراً مسؤولاً ثانياً، قال في حديث له إنه قد اتخذت كل الاحتياطات. ومع الثقة التامة بما يقول، فهل يستطيع معاليه أن يقول لنا كيف أن هذه الخطة من الاحتياطات ستنجح نجاحاً لم يصله الآخرون وهم من كشفوا المرض وعرفوا جرثومته وطريق الوقاية وإنتاج الدواء للعلاج ونحن نشاهد أن دائرة المرض لا تزال تتسع في كل مكان وعدد المصابين يزيد ولا ينقص وهذا هو الحال نفسه في المملكة؟ فهل حدث ذلك لأنه لم تتخذ احتياطات منذ ظهر هذا الوباء إلى يومنا هذا أم أن ذلك حدث مع وجود هذه الاحتياطات؟
إن مئات الآلاف أو ملايين من النفوس القلقة ستكون سعيدة لو تفضل الأخ العزيز د. عبدالله بإزاحة الستار عن ماهية هذه الاحتياطات وضمانتها إلى هذا الحد الذي عجز عنه الآخرون، أما قبل ذلك أي قبل أن يكشف لنا معاليه عن خطته أو تعذر ذلك ألا يكون هذا الطلب مسوغاً بل وواجباً من باب أن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم؟