Al Jazirah NewsPaper Saturday  04/07/2009 G Issue 13428
السبت 11 رجب 1430   العدد  13428
بعد الاختبارات.. ماذا نفعل؟
د. فوزية البكر

 

لا بد أنهم كانوا في حدود السادسة عشرة أو أقل أو أكثر قليلا. الساعة تشير إلى الثامنة والنصف صباحا. جماعات متناثرة من الطلاب الذكور أطلق عقالها بعد نهاية آخر يوم في الامتحانات النهائية من إحدى المدارس الحكومية في منطقة المعذر؛ حيث أعبر كل يوم باتجاه عملي. الطلاب يملؤون الشارع ويسدونه بسياراتهم وبتجمعاتهم وبأحاديثهم الجانبية دون أن يعيرو أحداً أيا من اهتماماتهم.

البعض يتدثر بغترته والبعض ألقاها على كتفه وأصوات ضحكاتهم وتحركاتهم تملأ فضاء المكان.. من يمكن أن يحتضن كل هذا النشاط وكل هذا التحفز وكل هذه الطاقة للمائة وعشرين يوما القادمة من فراغ هذه العطلة التي تبدو بلا نهاية ؟؟

يبدو أن الكثير من صنَّاع القرار في الأجهزة ذات العلاقة بالشباب لا يشعرون بذلك؛ فكل له تدابيره الخاصة في هذا الصيف اللاهب، والخطط قد تم تنظيمها ودفع مبالغها بما يضمن عبورا سهلا لسحابة الصيف القاتمة، ويتيح هرباً مؤقتا من كل هذا الغبار إلى إحدى المناطق الطبيعية في العالم؛ حيث يوجد الماء والخضرة والسحاب وربما الجبل والبحر.. لكن السؤال هو: ماذا يفعل هؤلاء الشباب العاديون الذين لا يملكون المال والإمكانات لتصريف الوقت سواء داخل البلاد أو خارجها ؟؟

السؤال يملأ البيوت بعدد وأعمار الشباب من الذكور والإناث الذين لا يملكون وسيلة للتعاطي مع هذا الواقع إلا بالنوم، ثم النوم، ثم النوم، ولو حدث أن هبط علينا أقوام من كوكب آخر في الساعة العاشرة صباحا من أحد أيام العطلة الصيفية على سبيل المثال فستعقد الدهشة ألسنتهم فكل المواطنين تقريبا مرابطون تحت أغطيتهم حتى الخامسة عصراً أو ما يزيد ؟ ومن يلومهم.. فأين يذهبون وماذا يفعلون وكيف يفرغون عن طاقاتهم.

المدهش في هذا البناء الاجتماعي شبه المتحضر أن المدارس لا علاقة لها بالموضوع فهي مجرد أبنية بحجرات صفية قصد من خلال تنظيمها ومن خلال عدد مقاعدها أن يقف المعلم أمام السبورة الحائطية ويقدم المعلومات الموجودة في الكتاب للطالب، لكن لا إمكانات فعلية ولا ملاعب وساحات ومسابح تشغل الطلاب وتجعل ممارسة الأنشطة البدنية والمهنية والفكرية جزءاً من يومهم الدراسي، وبذا، فكل ما تفعله المدرسة بوضعها الحالي داخل الأحياء هو أن تغلق أبوابها ويأخذ العاملون فيها عطلهم السنوية الطويلة وحتى تلك المدارس الخاصة المزودة بأفضل التجهيزات الرياضية والفنية فأنها تفضل حماية هذه الممتلكات من شغب الشارع والفوضويين الذين سيهدرون (العهدة) ويشغلون المكان دون أن توجد مبررات كافية ذات علاقة مثلا بالإحساس بالمسئولية الاجتماعية للمستثمرين.

ولأن الأحياء تفتقد لأية مراكز وأندية اجتماعية ورياضية تظل فكرة الحصول على نشاط رياضي أو بدني أو لعب الكرة أو السباحة وقفا على من يستطيع الدفع للأندية الخاصة وهو ما يعيدنا للمربع الأول؛ فمن يملك هو من يدبر أمره سواء داخل البلاد أو خارجها، ومن لا يملك وهم الأكثرية فليبق في مهب الريح تلتهمه رياح الفراغ ويلوكه الغبار والطاقة والقابلية لاقتحام المجهول بحثا عن هدف ثم للمغامرة، ثم قتلا للوقت والملل والطاقة التي لا تجد منافذ مناسبة للتفريغ.

وحتى لا نبالغ في ظلم المؤسسات الثقافية، فهناك بعض البرامج الصيفية المطروحة من قبلها مثل ورش العمل المتنوعة التي طرحتها وزارة الثقافة للفتيات في مركز الملك فهد أو محاولات وزارة التربية والتعليم لإقامة بعض النشاطات الصيفية، لكن المشكلة أن هناك أكثر من خمسة ملايين طالب وطالبة على مستوى التعليم العام، كما أن هناك مئات الآلاف من الطلاب في المستويات الجامعية المختلفة الذين يبقون أسرى للفراغ والغبار والبحث عن هدف والذين لا يمكن لهذه البرامج النخبوية من الوصول إليهم أو استيعابهم بحكم محدودية المقاعد المتاحة فيها.

السؤال: ماذا تفعل المجتمعات الأخرى بكل هذه الطاقات ؟ لننظر إلى دول مختلفة تفيض بسكانها ويجد الجميع متنفسا لخبرة ما خلال الصيف تخلق أهدافا جمالية وإنسانية ومهنية في حياتهم وتحسن من مهاراتهم المصقولة أصلا في المدارس بما يعزز انتماءاتهم الاجتماعية والإنسانية للقيم الوطنية والعالمية ؟؟

الولايات المتحدة تبدو نموذجا متقدما في هذا المجال، لكنه مطبق ويمكن التعلم منه؛ فالبرامج الصيفية تملأ كل الفضاءات التعليمية والثقافية من جامعات ومتاحف ومراكز ثقافية وحدائق عامة والبرامج تتنوع ما بين الخاص والعام، وما بين المدفوع أو المجاني الذي تدعمه الولاية أو الحكومة الفيدرالية أو مركز الأحياء أو المؤسسات المدنية غير النفعية. وتتنوع أشكال البرامج المطروحة؛ ففيها ما هو معد لطلاب الثانوية عبر برامج صيفية تتولاها الجامعات لإعداد الطلاب وتعويدهم على البيئات الجامعية وتدريب قدرتهم على التمييز والاختيار عندما يقررون أين سيلتحقون، وهذه البرامج الجامعية تتنوع هي الأخرى ما بين برامج (ارستقراطية) كما هو الحال في برنامج جامعة هارفارد الصيفي وما بين برامج مجانية تطرحها الكليات المحلية كل في منطقته.

كما تتنوع البرامج المختلفة التي تطرح في مؤسسات أخرى ما بين الفني والأدبي والتعليمي واللغوي.. إلخ.. من البرامج التي تطرح خيارات متعددة، لكن الفكرة هي مساعدة المواطن أيا كان عمره، وليس طلاب المدارس فقط من اكتشاف مواهبهم وصقل خبراتهم وخلق أهداف جمالية وفنية تملأ عالمهم.

وحتى الحدائق العامة في معظم البلدان والتي يتم استغلالها فهي تمتلك برامجها الموسيقية و تستخدم ساحاتها لتقديم العروض المجانية بجداول محددة زمنيا تتيح لغير القادرين ماليا أو لا يملكون مواصلات أو لأم مع أطفالها ولا تستطيع الحركة بسهولة مثلا على الاستمتاع بدون تكلفة، بل إن الشعر يقدم في كل مكان و يكتب حتى على جدران قطارات الأنفاق بحيث يضطر الراكب وهو يقف وسط الزحمة ويدير رأسه أن يقرأ بعض الشعر وتعريف عن الشاعر، كما تجوب الفرق الفنية والموسيقية كل مكان لإحياء وإثراء الحياة الفنية وتهذيب حاسة التذوق الفني والجمالي وتعزيز القيمة الإنسانية للفرد والفكرة المحورية هي تقديم الفنون والآداب والمهارات وجعلها جزءاً طبيعيا من حياة الناس يتناولونها ضمن وجباتهم اليومية لشعور الدولة والمؤسسات بأن هذا هو جزء من واجبها ويتوازى في أهميته مع توفير التعليم أو الخدمات الصحية للمواطن..

إنه ليس ترفا لشغل وقت الفراغ فقط، وإن كان هذا جزءاً من وظيفته ! إنه واجب الدولة على مواطنيها لتعزيز المعاني والأهداف في حياتهم وإثرائها بالخبرات المختلفة، وهذا في رأيي هو الفرق الجوهري في تناول برامج العطل الصيفية التي ننظر لها كمسألة إضافية جاءت أم لم تجئ.. لا فرق؛ فهي مسؤولية الأفراد أنفسهم وليس المؤسسات العامة، كما تتداخل الكثير من القضايا الثقافية والأيدلوجية لتمنع نشاطا أو تتيح آخر، كما حدث في إحدى المناطق، حين تم إلغاء كافة الحفلات والنشاطات الفنية الصيفية لهذه السنة والسنوات القادمة كما حدد التصريح !!

أولادنا يأكلهم الفراغ، ويتلقفهم الناشطون سواء كانوا تجار مخدرات أو تجار إرهاب أو تطرف، أو عنف أو تفاهة ومحدودية للفكر وللخبرات الشخصية، ومن حقهم علينا أن نمنحهم معاني إضافية لحياتهم يوقظهم من أسرتهم ويدفعهم للتفاعل مع ما يجري في هذه الحياة الصاخبة.








 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد