نعم الحديث مع الوالدين واجب ومتوقع وضروري، ليس في سن معينة بل من نعومة الأظافر إلى ما شاء ربك، ولكن هل هناك مشكلة في ذلك؟ نعم الناس يتحدثون ويتهامسون، وتثبت الدراسات الاجتماعية والنفسية أن ثمة مشكلة في الحوار بين الأبناء والآباء، على وجه الخصوص، وربما أقل ..
..بين البنات والأمهات، ولكن لماذا؟ أنحملها على العصر والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية؟، ربما هي جميعاً، ولكن قد نكون نحن السبب، آباء وأبناء أمهات وبنات، أو نسهم في خلق المشكلة.
ويسبق الحديث، أو الرغبة فيه، موضوع الحديث نفسه، محتواه، وطبيعته، وطريقته، بل ونبرته، ومكانه وزمانه، وبيئته. سيقول أحد، يكفي لقد حجرت واسعاً وصعبت سهلاً، وجعلت من الحبة قبة، لا، كل واحد يسأل نفسه: متى تحدث ابني معي، أو العكس متى تحدثت مع ابني؟ هل يحتاج لذلك الحديث تدريباً، لربما، ولكن أقول: يحتاج له قبل وبعد، نفس طيبة ونية خالصة وعزيمة قوية وثقة عالية.
وماذا يحصل لو لم يكن هنالك من حديث بين الابن وأبيه، أو الابنة وأمها؟ يمكن لك أيها القارئ العزيز أن تتصور أشياء كثيرة: الجفوة، القسوة، الانعزالية، الانهزامية، بل لربما العقوق. ثم ماذا بعد ذلك؟، أمور قد لا تحمد عواقبها. والحديث لا يكفي، بل إن من مقوماته: سلوكيات وتعاملات كثيرة وأساليب عديدة، قد تكون من الأب سابقة ومن الابن لاحقة: تهتم بأموره، تعرف احتياجاته، تشاركه في بعض اهتماماته وهواياته، تحترم مواعيده ومناسباته، تتعرف على زملائه وأصدقائه، تعتني بشؤونه المتعددة، تلعب معه، تسافر معه.
يقول أحدهم أعرف عندما يدعوني أبي لأكل (الفطيرة) معه في الصباح، أعرف أن ثمة شيء ينتظرني مقابل هذا (الإفطار المميز)، ثم أشرع في الحديث عن أشياء، ثم يقول لي: يظهر أن أمورك على ما يرام. ثم المنزل هل ساكنوه منقسمون على أنفسهم لأي سبب من الأسباب؟، قد تكون الرياضة وتشجيع فريق معين، أو هنالك موضوع مختلف عليه، شراء سيارة مثلاً، تخصص الابن ودخوله الجامعة، أو اختياره لجامعة معينة، أو رغبته في الدراسة في الخارج، أو قد يكون عدم رغبته في إكمال دراسته الجامعية ليعمل أو ليلتحق بمعهد مهني، أو غير ذلك، أو مسألة عودته إلى البيت متأخراً في الليل. وهنالك مسائل تتعلق بنوع الوجبات التي تعد في المنزل، وهنالك رغبة جامحة من الأولاد، ذكوراً وإناثاً، في الوجبات السريعة، التي تجلب إلى المنزل، بناء على مكالمة هاتفية، ونعرف من الذي في نهاية المطاف سيدفع الفاتورة، أو مسألة قضاء الإجازة الصيفية، هل سيكون هنالك سفر البتة، أداخلياً أم خارجياً؟ إذن موضوعات الخلاف يبدو أنها أكثر من الموضوعات التي يمكن أن يتفق عليها، هل سيبقى أمور يمكن الاتفاق عليها؟
الأب يحاول أن يقنع ابنه في انتقال الأسرة من المدينة إلى القرية، ثم يحاول الأب إقناعه بمزايا متعددة في الأرياف بعيداً عن المدن وبالقرب بالمظاهر الطبيعية من جبال ووديان ونباتات، ولكن الابن ليس مقتنعاً ويعترض على أبيه بأن هذه الأمور التي يحبها قد لا يشاركه الولد في ذلك، ويتهم الأب الابن بأنه لا يحب الطبيعة، بل يكرهها، ويدافع الابن بأنه ليس كذلك، ولكنه ليس مستعداً بأن (يحدق) ببصره في المظاهر الطبيعية كما يفعل أباه.
ليس من الضروري أن تتطابق الرغبات بين الأب والابن، قد تتقارب، ربما، ولكن لكل رغباته وهواياته ومتطلباته، بسبب فارق السن، حتى عندما يسافر الأب مع الابن ويطلب منه قيادة السيارة سرعان ما يعترض عليه في طريقة قيادته وميله للسرعة، والأب بحكم السن والخبرة يعترض على ذلك وينصح ابنه بأن يكون قائد مركبة مثالياً، وهذا لا يحصل في واقع الحياة، ليس ما لا يدرك كله يترك جله، كما يقال.
وماذا لو كان الخلاف على عادات وممارسات معينة، قد تصدر من أحد الطرفين، الأب أو الابن، لنقل: مسألة التدخين، سيكون الأمر أكثر تعقيداً. يفترض أن الأب هو القدوة الحسنة، أو المثل الأعلى، فعليه لذلك أن يتحلى بالأخلاق الحميدة والسلوكيات الفاضلة، ماذا سيكون الأمر لو كانت سلوكيات الأب من مثل ما يعترض عليها الأب نفسه بالنسبة للابن؟
الاتصال والحديث يرتبط بالروتين اليومي لرب الأسرة، الأب في معظم الحالات، يستيقظ مبكراً، يذهب إلى عمله ثم يعود بعد الظهر ويتناول غداءه، وفي المساء يؤدي واجباته الأسرية، وربما زيارات أو تلبية دعوات ثم يعود ويتناول عشاءه وينام ليصحو في اليوم التالي. ويتكرر الروتين اليومي بهذه الوتيرة. يشتكي الناس من عدم وجود الوقت للجلوس مع أفراد الأسرة، ويتعقد الأمر أكثر إذا كانت الأم عاملة.
بعض الآباء يقولون لأبنائهم ليس مهماً أن يعلم الابن عني شيئاً، الآن أو في الماضي، وهنالك من الآباء من يتحدث، بل يحب الحديث إلى أبنائهم، عن حياتهم مع آبائهم، وبعض الأبناء يصغون ويتلهفون لسماع الحديث عن حياة آبائهم وأجدادهم، وهنالك من الأبناء من لا يعير اهتماماً لذلك. وطبعاً حديث الأب عن أبيه وأعمامه وعن أمه وخؤولته له فوائده العديدة، سيكون الأبناء على معرفة بأقربائهم مما يساعد على صلة الرحم ومن ثم ترابط المجتمع.
الآباء، في معظم الأحول، لديهم العديد من القصص التي يرغبون في روايتها لأبنائهم وبناتهم، ولكن هل يوجد الرغبة نفسها من لدن الأبناء لسماعها؟ القضية هي أن ما قد يكون شيقاً ومثيراً للآباء قد لا يكون كذلك مشوقاً للأبناء، والأمر الآخر، هنالك من صارفات للاهتمام بالماضي: ما يقدمه العصر الحديث من مشوقات ومغريات من وسائل الاتصال عبر التقنيات الحديثة من مرئيات ومسموعات ومن حاسوب ومن وسائل اتصال مسموعة ومرئية، فكم يتبقى من الوقت لسماع قصص الآباء التي يتلهفون لروايتها لأبنائهم؟
ثم أليس هنالك أمور حساسة، هنالك معوقات للحديث عنها بين الآباء والأبناء، ما يتعلق بالسياسة والعلاقات الاجتماعية ولربما الاقتصادية، ثم التباينات الاجتماعية بين الأسر وبين طبقات المجتمع، الخطاب الأبوي قد لا يكون مقبولاً أو مدركاً أو مقنعاً للأبناء.