الجزيرة - خاص:
يميل الإنسان بطبعه إلى العيش في جماعة، يأخذ منها ويعطيها ويشترك معها في كثير من الأحاسيس، ولذا فهو يرى كرامته من كرامتها وعزته من عزتها وسعادته من سعادتها، ولا شك أن ما تحقق للوطن من تنمية وتطور ومكتسبات على مختلف الصعد هو ثمرة جهود، وبذل، وعطاء من قبل الآباء والأجداد مما سيوجب على الأجيال الصاعدة أن تدرك ذلك، وأن تدرك أيضاً قيمة ما تحقق من مكاسب على مدار عشرات السنين، وحيث إن الدين الإسلامي اعتبر العمل من أعظم واجبات الإنسان في هذه الحياة فكيف يمكن أن ننمي أهمية العمل في أفراد المجتمع المسلم بهدف الحفاظ على هذه المكتسبات، والعناية بها من أجل استمرار تقدم البلاد ونموها؟
لا فرق بن عمل الدين والدنيا
يقول الدكتور ناصر بن عبدالله التركي، الأستاذ المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: إن مما يميز الإسلام على سائر الأديان شموله لجوانب الحياة كلها؛ فقد حض الإسلام على العمل وألزم القادرين به؛ حيث يقول عز وجل:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا
فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}. فقد دلت الآية على أن العمل مطلب شرعي لتأمين الرزق، وبذلك فقد رفع الإسلام تلك النظرة المهينة للعمل - على خلاف الأمم السابقة - حتى تكاد ترقى رتبته إلى مرتبة العبادة والجهاد في سبيل الله حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار). وقد جعل الإسلام الإرهاق من العمل من مكفرات الذنوب حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (من بات كالاً من عمله بات مغفوراً له) إن الإيمان بالله يحتم العمل وإعمار الكون، فهو لا يريد الانكماش والسلبية والتوقف عند مجرد النوايا الحسنة فقط التي لا تثمر أعمالا.
إن الإسلام لا يفرق بين العبادات المفروضة وبين العمل الدنيوي من كسب عيش وغيره لسد حاجته وحاجة من يعول من حيث جعل الثواب عليه، فكل عمل طيب يتقنه سواء كان دينياً أو دنيوياً فهو مثاب عليه في الدنيا والآخرة، فالعمل الصالح يشمل كل ما يقوم به الإنسان لربه ولنفسه ولأسرته ولمجتمعه وللخلق عامة من عمل نافع مثمر مباح إذا أراد به وجه الله سبحانه وتعالى، وليس أدل على شرف العمل من أن الأنبياء كانوا يعملون في صناعات مختلفة كما ورد عن نبي الله داود - عليه السلام - قال تعالى:
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ
لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرعى الغنم لأهل مكة. وغيرهما من الأنبياء كانوا يعملون.
والذي ينقطع عن العمل بدعوى الزهد والإقبال على الله يتسم بشخصية جبانة تخاف من مواجهة الحياة، وعاجزة عن الجهاد في طلب الرزق، وذليلة؛ لأنه يعرض نفسه ومن يعول لاستجداء الناس إذ إن للعمل فوائد وآثارا عديدة، منها: إنه طريق موصل إلى محبة الله ورضاه، وانه دليل على شرف النفس ونبلها، وانه يورث العفة ويحفظ الكرامة وينزه النفس عن سفاسف الأمور، وهو يهيئ الفرد الصالح ومن ثم المجتمع الصالح.
وإن عمل الإنسان في أمور الدنيا يجب أن يكون مصحوباً بحسن النية، فلا يكون همه تكثير أمواله بقصد التباهي على غيره وإنفاقها فيما لا يحل، بل يكون غايته صيانة كرامته وكرامة من تحت يده عن سؤال الناس وأن يسعى إلى كل ما من شأنه تحقيق تقدم وطنه وتطوره والمحافظة على المكتسبات التي بذل فيها الجهد والمال عبر السنين الماضية.
تعزيز مفهوم التنمية أولاً
ويتفق الدكتور نايف بن صالح المعيقل رئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية بجامعة الجوف - مع الكلام السابق - بقوله: تعلمنا من ديننا الحنيف أهمية العمل وأن العمل عبادة يبتغي من ورائها المسلم رضا الله عز وجل, والمتأمل في سيٌر السلف الصالح يجد أنه بالرغم من مشاغلهم في الدعوة إلى الله, فإنهم كانوا أصحاب مهن, فأحترف آدم عليه السلام الزراعة, وأحترف نوح عليه السلام النجارة, واحترف داوود عليه السلام الحدادة, واحترف معلم البشرية محمد -صلى الله عليه وسلم- التجارة وكلهم رعى الغنم.
لقد أوضح ديننا الحنيف فضل العمل وقيمته وأثره في الفرد والمجتمع, يأتي هذا الاهتمام بهذا الجانب ليدل دلالة واضحة على عظمة هذا الدين واهتمامه بالإنسان وصونه لكرامته وإيجاد السبل التي تكفل له حياة كريمة وتجنبه الفراغ الذي يؤدي في اغلب الأحوال إلى البطالة.
والعمل هو المحور الذي تدور حوله الحياة فلا غنى للمجتمع الصالح عنه وهو إثبات لوجوده وعزته وتكامله والطريق السليم للحفاظ على مكتسباته. حيث تُكتسب أهميته من الدور الهام الذي يقوم به في بناء نهضة الأمة العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. ومن المهم في هذا الجانب ربط هذا الموضوع بالتربية ودور وسائل الإعلام في تغرير هذه المفاهيم لدى الشباب. كذلك يجب التأكيد على تأهيل ثقافة أخلاقيات العمل من خلال المدارس والجامعات والقطاعين العام والخاص عن طريق التعليم أو التدريب وإقامة ورش العمل لتعزيز ذلك المفهوم الذي سينتج لنا جيلا ً يحترم العمل وفضيلة الصدق والعدل والأمانة وأداء الواجب.
وخلاصة القول أن تعزيز مفهوم تنمية أهمية العمل في حياة الأمة واستثمار الطاقات المتوفرة هو السبيل الوحيد للمحافظة على مكتسبات الوطن وتحقيق العديد من الانجازات التي نفاخر بها بين شعوب الأرض.
ترسيخ القيم التربوية
وتؤكد الدكتورة نجاة عبد الرحمن علي اليازجي عضو هيئة التدريس بكلية الآداب بجامعة الطائف أن العمل رياضة للفكر والجسم وشغل للنفس عن البطالة واللهو، وكسرها عن الكبر، وإبعادها عن الخمول والكسل، وتعفف عن ذل السؤال، وقد ورد ذكر العمل في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)، وقوله: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، وكم ختمت آيات من القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، فالعلم والعمل صنوان ومادتهما واحدة، فلا ينفع علم بدون عمل كما لا يجدي عمل بلا علم. وقد قال العلماء: (إنما يفضل العامل بنصحه وإتقانه للعمل) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
إن شعور الإنسان بأن العمل الذي يقوم به هو عبادة في حد ذاته وأن الأجرة المترتبة عليه رزق حلال من الله عز وجل وفي انتفاعه بتلك الأجرة وإنفاقها على أهله وذويه، والتصدق منها أيضاً عبادة لله تعالى في ذلك، ذلك الشعور المشار إليه عون للإنسان على القيام بذلك العمل والتعود عليه. حيث يحثنا ديننا الإسلامي على العمل والإنتاج والكسب الحلال، والرسول -صلى الله عليه وسلم- علمنا أن العمل عبادة، وقربى إلى الله، وفي الحديث الصحيح: (ما أكل أحد طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود - عليه السلام - كان يأكل من عمل يده)، وقالت عائشة رضي الله عنها (كان أصحاب رسول الله عمال أنفسهم).
ولقد رفع الإسلام من قيمة العمل مهما كان نوعه حتى لا يتخاذل الناس في ميدان العمل أو يتحرج بعض أصحاب الأعمال البسيطة، فالعمل خير للإنسان من أن يسأل الناس، لأن ترك العمل يؤدي إلى الفقر والبطالة، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه).
مفاهيم خاطئة
وتشير د.نجاة اليازجي أن المسلمين اليوم في أمس الحاجة إلى توجيهات رسولهم -صلى الله عليه وسلم التي تحث على العمل وتؤكد على ضرورة إتقانه: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، وقد شاعت بين كثير من المسلمين مفاهيم خاطئة في التعامل مع العمل خاصة في المؤسسات الحكومية فقل فيها الإنتاج، وتراجع أداء العاملين، وتفنن البعض في عدم الالتزام بمواعيد العمل الرسمية، في ظل ذلك كيف نغير نظرة الناس إلى بعض المهن والأعمال، وكيف ننمي فيهم روح الإنتاجية والابتكار والحرص على العمل وخدمة الإنسان لنفسه أولا ثم مجتمعه المسلم؟.
كما أن تعويد الإنسان لأبنائه في صغرهم على القيام بما يناسبهم من أعمال البيت وعدم الاعتماد التام على الخدم والحشم، وما يعينهم بعد ذلك على عدم التحرج والاستنكاف من أي عمل كان يساعد في تحصيلهم في المستقبل وتقبل الأعمال الموكلة لهم وإتقانها بحب وتفاني في إتقانها مهما كان العمل صغيراً.
فما يعين الإنسان على عمله هو مراقبته لله عز وجل ويقينه أنه إنما يتعامل مع ربه عز وجل وحرصه على أن يكون رزقه حلالاً ومطعمه حلالاً ومشربه حلالاً، وفي إتقان الإنسان لعمله سعادة حقيقية له، وإزاحة لكثير من الهموم والغموم عن كاهله.
والمتأمل في سيرة كثير من علماء السلف يجد الواحد منهم يتقن فنوناً عديدة فتجد فيهم مفسراً ومحدثاً ًومؤرخاً وطبيباً وفلكياً ومعمارياً، فنشر دين الله في أرضه وخدمة عباد الله وتعاون الناس على البر والتقوى لا يختص بشريحة من الناس دون أخرى ولا بحرفة دون غيرها (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).
وإن الإتقان سمة أساسية في الشخصية المسلمة وهي التي تحدث التغيير في سلوكه ونشاطه، فالمسلم مطالب بالإتقان في كل عمل تعبدي أو سلوكي أو معاشي قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).
ولابد أن ندرك أن الإتقان في الإسلام ليس هدف سلوكي فقط وإنما هو ظاهرة حضارية تؤدي إلى رقي وتقدم المجتمع، فلا يكفي الفرد أن يؤدي العمل صحيحاً بل لابد أن يكون صحيحاً ومتقناً حتى يكون الإتقان جزءاً من سلوكه الفعلي اليومي، وعندها تتميز الأمة بالإخلاص في العمل وتقوى المراقبة الداخلية ويتجرد العمل من مظاهر النفاق والرياء، والله عز جلاله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم، وإخلاص العمل لا يكون إلا بإتقانه.
وشريعتنا الإسلامية لا تجعل إتقان العمل أمراً دنيوياً يبتغي الفرد منه منفعة عاجلة فحسب بل تجعله أيضاً أمراً تعبدياً يتقرب به إلى الله تعالى، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) ولو دققنا في ألفاظ الحديث الشريف لوجدنا في قوله: (عملاً) لم يحدد نوع العمل: وهذا إيحاء بأن الله تعالى يحب أن يكون الإتقان سلوكاً للمؤمن في كل أعماله.
ولعلنا نلحظ أن من أسباب التخلف في المجتمعات الإسلامية افتقادها خاصية الإتقان كظاهرة سلوكية وعلمية بين الأفراد والجماعات، وانتشار الصفات المتناقضة للإتقان كالفوضى والتسيُّب وفقدان النظام وعدم المبالاة بقيمة الوقت والإهمال والغش.. إلخ. وهذا منعكس في فقدان المسلمين للثقة في كل شيء ينتج في بلادهم مع ثقتهم في منتوجات الدول الغربية مع أن صفة الإتقان وصف الله بها نفسه لتنقل إلى عباده (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ).
وأول عمل يتطلب الإتقان في حياة المسلم هو الصلاة حيث يطالب بها في السابعة ويسأل عليها في العاشرة، فإذا وصل مرحلة الشباب والتكليف كان متقناً للصلاة محسناً أداءها، وإتقان هذا العمل يتطلب التعود على الإتقان حتى تنتقل هذه العادة من الصلاة إلى سائر أعمال المسلم اليومية دينية أو دنيوية.
والعمل الذي يبنى على الإتقان والكمال من المستحيل أن يندثر أو يتلاشى لأن أساسه قوي ومتين والأمثلة كثيرة، فالعامل الذي يكد ليل نهار بصدق وإخلاص سوف يجد نتائج هذا العمل من احترام الناس وتوفيق الله له وكذلك المعلم الذي يتقن ويحسن تدريسه لطلابه سيلاقي هـذا الغرس الطيب والبذر الصالح الذي نما على الطهارة والتقوى.
وهناك صفتان جميلتان يعتمد عليهما جودة العمل والإتقان هما: الأمانة والإخلاص، وهما في المؤمن على أكمل صورة وأروع مثال، فالعامل المؤمن ليس همه مجرد الكسب المادي أو إرضاء صاحب العمل ولكنه أمين على صنعته يخلص فيها جهده ويراقب فيها ربه ويرعى حق إخوانه المؤمنين، فقد قال عز جلاله: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) فليس المطلوب في الإسلام مجرد العمل بل إحسانه وأداؤه بأمانة وإتقان.
لهذا فنحن مطالبون بترسيخ هذه القيمة التربوية الحياتية في واقعنا وسلوكنا لأنها تمثل معيار سلامة وقوة شخصية الفرد وكذلك سمة التغيير الحقيقي فيه، كما أننا مطالبون ببذل الجهد كله في إتقان كل عمل في الحياة يطلب منا ضمن واجباتنا الحياتية أو التعبدية، وبذلك نعمل على ما يحبه الله تعالى فهو المطلع على أمور عباده وهو الحي الذي لا ينام وهو القائل عز جلاله: (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ)، (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).