الوقت هو ذاك الميدان الفسيح الذي يتسابق فيه العالم نحو التقدم والنجاح والقيادة في هذه المعمورة.. غير أن الوقت عند المسلمين يمتد إلى العالم الأخروي وفي عقيدتهم أنه -أي الوقت- مخلوق ومسخَّر للإنسان وسيُحاسب كل إنسان عن هذا الوقت إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه ما فعل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه).. سنن الدارمي.
تأملات في سورة العصر:
لقد أقسم الله -جل وعلا- بالوقت أو الزمان فقال: {والعصر}.. والقسم هنا للفت الانتباه وعظم الأمر، (يقول ابن القيم في كتابه التبيان في أقسام القرآن: أقسم سبحانه بالعصر لمكان العبرة والآية فيه، فإن مرور الليل والنهار على تقدير قدرة العزيز العليم منتظم لمصالح العالم على أكمل ترتيب ونظام وتعاقبهما واعتدالهما تارة وأخذ أحدهما من صاحبه تارة واختلافهما في الضوء والظلام والحر والبرد والحركة والسكون وانقسام العصر إلى القرون والسنين والأشهر والأيام والساعات وما دونها آية من آيات رب العالمين وبرهان من براهين قدرته وحكمته)(1)
{إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}.. أي جنس الإنسان ممن أضاع الوقت والزمن فيما لا فائدة فيه فهو في خسارة (والخاسر هو الذي ضيَّع الأوقات في التفاخر بالأحياء والأموات وفي التنافس على تكثير الثروات، وفي التباهي بكثرة البنين والبنات، وفي الانشغال بالنعيم عن المنعم، ذاك هو الخسران العظيم الذي يصلى به صاحبه نار الجحيم، وكيف لا يخسر من ضيَّع الأزمان بعيداً عن الإيمان، كيف لا يخسر من أعرض عن الأعمال الصالحة وأقبل على العصيان، كيف لا يخسر من لم يتواص بالحق والصبر، كيف لا يخسر من ضيّع العمر في الهمز واللمز، والجمع والعدّ، كيف لا يخسر من علَّق الآمال العِراض على الأموال الطائلة -وقد قيل: الأماني بضاعة المفاليس-، حق له أن تخف موازينه ويعاين الجحيم ويخسر كل شيء، وتتحطم آماله العِراض وتتبدد أمانيه العِذاب وينبذ في الحُطمة بعد أن نبذ الحق وأهله من أجل المال فكان الجزاء من جنس العمل)(2).
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.. أي سيخسر الكل إلا هؤلاء الذين (آمنوا) فهم في كل وقت ومع مرور الزمن قلوبهم عامرة ومطمئنة بالإيمان بالله متوكلة عليه، مليئة بالمحبة والتوقير والتأسي برسله، مؤمنة بملائكته حفية بهم حيية منهم مسلمة عليهم، مؤمنة بكتبه تالية لقرآنه متدبرة لآياته محكمة له، مؤمنة باليوم الآخر وجلة مرتقبة مؤملة، مؤمنة بالقدر راضية به مستسلمة له خيره وشره.
وقوله تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}; من عطف الخاص على العام لأن العمل الصالح جزء من الإيمان لا ينفك عنه، إذ الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، وعطف العمل الصالح على الإيمان لبيان مدى أهميته فهو البرهان على صدق الإيمان)(3).
فلا بد من تجسيد هذا الإيمان بالأعمال الصالحة من فرائض ونوافل وقربات، ولا بد من عمارة الأوقات بأنواع العبادات والطاعات والمسابقة في الخيرات، ولم يكتفوا بذلك بل {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} بمعنى أوصى بعضهم بعضاً بلسان المقال ولسان الحال، باتباع الحق والتمسك به)(4).
فهم يتواصون بهذا الإيمان وهذا النور ويدعون إلى هذا الخير وينشرونه ويبلغونه للناس، ناصحين لله ورسوله آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ولسان حالهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا} الإنسان 9.
وقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر}; والصبر ثلاثة أنواع: الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي والصبر على البلايا.
وفي قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر}; بعد قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}; إشارة إلى أن طريق الحق ليس مفروشاً بالرياحين والأشواق والورود، بل إنه محفوف بالعقبات والأشواك والسدود، والثبات عليه يحتاج إلى صبر جميل وعزيمة قوية)(5).
الحال والعصر (الوقت):
لقد كان السلف الصالح أشحاء بالوقت أكثر من شح البخيل بماله والظمآن بمائه، لا أنهم من أن يقال {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} الفجر24، فالحياة الحقيقية والدار الأبدية هي الدار الآخرة.
وحال الكثيرين في مجتمعنا مع الوقت يُرثى له خصوصاً في الإجازة الصيفية، فترى النهار ينقلب ليلاً والليل نهاراً وتختل الموازين وتضطرب الحياة، والناس ما بين متسكع في الأسواق أو على الأرصفة أو عكوف على القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية التي لا تغني ولا تسمن؛ بل تفسد وتدمر، أو سهر في الاستراحات التي تورث العناء والتعب الذهني والنفسي.
إن السبب الرئيس في هذا التخبط وتبديد الوقت هو (الفراغ) وعدم الاكتراث لأهمية الوقت ولقد بيَّنت الأبحاث والدراسات التي أُجريت على مرتكبي الجرائم والمخالفات أن الفراغ هو المحرك لكل النوازع المكبوتة والرغبات الشهوانية.
ومن هنا كان لا بد من التخطيط لكيفية استغلال الإجازة الصيفية لنا ولأبنائنا وملء الفراغ بالفائدة وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الجزئية بقوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} الشرح 7 - 8.
ما الحل والعصر (الوقت):
وسأسطر ها هنا بعض الخطوط العريضة التي يستطيع كل فرد أن ينطلق من خلالها حسبما يلائمه؛ وكل إنسان أدرى بنفسه، ومن ذلك الاهتمام بالواجبات الدينية والدنيوية، تعاهد كتاب الله بما لا يقل عن جزء يومياً، القيام بالواجبات الاجتماعية والأسرية من اتصال وتواصل وأداء حقوقهم وتلبية احتياجاتهم المادية والمعنوية، تنظيم الوقت كأوقات النوم والاستيقاظ والطعام والتلفاز...، أن يهتم المرء بالقراءة الحرة، وحتى تكون القراءة مثمرة يُفضل أن يُخصص لها وقت والبحث عن الكتب المناسبة واختيارها مسبقاً، ممارسة نشاط رياضي شبه يومي كالسباحة أو الجري أو ركوب الخيل وأقل الأحوال رياضة المشي، تعلَّم بعض المهارات من خلال الالتحاق ببرامج ودورات في تنمية المهارات وغيرها، القيام بعملٍ خيري تطوعي كالمشاركة في المؤسسات والمراكز الخيرية وغيرها، الحرص على طلب العلم الشرعي وزيادة الإيمان من خلال مجالس الذكر والمحاضرات فلم يوص الله نبيه بالزيادة بشي سوى العلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه 114)، زيارة بيت الله الحرام وأداء العمرة، الترويح عن النفس بشي من التسلية والمرح المباح.
* ولا ينسى المسلم أن يحتسب الأجر في كل أعماله حتى أكله وشربه.. وكما قال معاذ بن جبل: إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.
(1) التبيان في أقسام القرآن لابن قيم الجوزية ص 114
(2) يتيمة الدهر في تفسير سورة العصر.
(3) المصدر السابق.
(4) المصدر السابق.
(5) المصدر السابق.