Al Jazirah NewsPaper Friday  10/07/2009 G Issue 13434
الجمعة 17 رجب 1430   العدد  13434

آفة الحسد
د. عبدالله بن محمد السبيعي

 

من الأدواء الخطيرة والعلل النفسية التي انتشرت مؤخراً بشكل ملحوظ بين الناس.. في كل المجتمعات وفي كافة المنتديات (الحسد..!!) الذي يدعوني للحديث عنه هذا اليوم أنه - مع بالغ الأسف - أصبح من أكبر الملوثات النفسية التي تلوث الأخلاق، وتسمم الأجواء وتوغر الصدور، وتثير الضغائن والأحقاد، وتحرك نوازع الشر من مكامنها، وهذا كله يفتح أبواب الخلاف والتفرق، فبدلاً من انتشار روح المحبة والإخاء، وإعلاء روح الفريق، والحرص على النجاح الجماعي وتجسيد مبدأ: (لننجح معاً) أصبحت روح الفردية والأنانية هي السائدة، وهذا كفيل بأن يعيق أي تطور، ويحبط أي تقدم، ويفشل أي مشروع.. لأننا نسمع عبارات مثل: ولماذا يكلف فلان بذلك؟ لم ينتدب فلان لهذه المهمة وأنا لا..؟ ما لذي يميز فلانا عني..؟ لقد ذهب فلان دورات تدريبية كثيرة فلماذا..؟ إلى آخر هذه العبارات التي لا تساق من باب الشفافية والوضوح والرغبة في تحقيق المساواة، بل تثار من باب الشغب على هذا أو ذاك، أو من باب الوقيعة بين هذا أو ذاك وبين رئيسه في العمل.. والمحزن في الأمر أن المتضرر في النهاية هو العمل، فبدلا من بذل كل واحد منا قصارى جهده لإنجاح العمل وتطويره، وعلاج ما يعترضه من مشاكل وعقبات وبدلا من التناصح والتعاون على البر والتقوى نتهم النوايا، ونشكك فيها، ونهدر الوقت والجهد والطاقة في الخلافات الهامشية وسفاسف الأمور.. وإذا ما فتشنا عن الحقيقة نجد أن الدافع الوحيد لكل ذلك هو (الحسد) ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم!!

إن الحسد - أعاذنا الله وإياكم منه - مرض عضال من أمراض النفوس والقلوب، وقد عرف منذ فجر البشرية، وحصد بنو آدم بسبب هذا الداء الوبيل! الخراب والدمار والشقاق والنزاع، وآفة الحسد إذا استولت على القلب فسد فساداً لا يرجى معه برء ولا صلاح، إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى خلاف ذلك.

وقد ذم الله تعالى الحاسدين الذين يتصفون بهذه الصفة الذميمة فقال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ}(54)سورة النساء، ونهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الحسد ففي الصحيحين أنه قال: (لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام).

ويجمع العلماء وخبراء الصحة النفسية على أن الحسد لكونه داء نفسياً وقلبيا خفيا يكمن في أعماق النفس البشرية المريضة به - والعياذ بالله - فهو شديد الضرر على الحاسد نفسه قبل المحسود، حيث بسبب لصاحبه من أنواع البلايا وألوان الرزايا والعذاب ما الله به عليم، فهو يجنب له الغم والهم والحزن والضيق، والقلق الدائم، والتوتر الشديد والاكتئاب المستمر أو المزمن.

قال الجاحظ: (الحسد أبقاك الله داء ينهك الجسد ويفسد الود، علاجه عسر، وصاحبه ضجر، وهو باب غامض، وأمر متعذر، فما ظهر منه فلا يداوى، وما بطن منه فمداويه في عناء) وقديما قال بعض الحكماء: ثلاثة لا يهنأ لصاحبها عيش: الحقد والحسد وسوء الخلق).

والحسد - أعاذنا الله وإياكم منه - يتضمن عدة أمراض نفسية تنضم إلى بعضها لتؤدي أثرها في إشعال النار في صدر الحاسد وإحراق قلبه، فالحاسد يجتمع له الكره والحقد والعداوة والبغضاء والحسرة والكمد، والسخط على قضاء الله وقدره، والهم والغم والترقب والتربص، والقلق والتوتر والانفعال والحيرة، واستراق النظرات وكذلك استراق السمع والتجسس، وإجهاد القلب والبدن، والترصد واستقصاء الحيل، هذا كله دون أن يتضرر المحسود، ثم الحسد مع ذلك كله يأكل الحسنات نعوذ بالله من ذلك، والغريب أن الناس عادة لا يحسدون إلا أهل الفضل والخير والمكانة الرفيعة قال الشاعر:

وشكوت من ظلم الوشاة ولم أجد

ذا سؤدد إلا أصيب بحسَّد

لا زلت يا سبط الكرام محسداً

والتافه المسكين غير محسد

وقال آخر:

وفي السماء نجوم لا عداد لها

وليس يخسف إلا الشمس والقمر

وأسوأ ما في الحاسد أنه مريض النفس يكره وصول نعم الله تعالى إلى عباده ففي نفسه شح بالنعم، فتراه يغتاظ إذا أسبغ الله نعمة من نعمه على أحد من خلقه، مع أن هذه النعمة التي أنعم الله بها على فلان من الناس لا تنقص من نعم الله عليه شيئاً، لكنه الشح بالخير على خلق الله.

وترى الحاسد إذا قابل المحسود - وخاصة عند الوشاية به..!! تراه لا يواجه صاحبه ولا يضع عينه في عينه، وينطبق عليه تماماً قول الشاعر:

أسأت إلي فاستوحشت مني

ولو أحسنت آنسك الجميل

والعجيب أن الحاسد لا يسعى لتحصيل مثل هذه النعمة التي يحسد غيره عليها بالجد والعمل، بل يطلب زوالها من صاحبها فحسب، والأعجب من ذلك أن الحاسد قد يكون عنده من النعم أضعاف ما عند المحسود لكنه يضيق بهذه النعم وكأن نعم الله على عباده تسحب من رصيده هو من النعم.

وبعض الحساد - وقانا الله منهم وحمانا من شرورهم - لا يستطيع كتم حسده، ولا إخفاء الحقد الذي يأكل قلبه..!! فتراه حينما يرى خيرا لدى صاحبه - أي خير وإن قل سواء أكان ولدا، أو عقارا، أو نجاحا وتوفيقاً علمياً أو مهنياً، أو منصبا، أو صحة.. أو غير ذلك من أنواع الخير - تراه بكل وقاحة وسماجة وفجاجة يظهر حقده وحسده، ورمبا يدعو على أخيه صراحة بالهلكة وزوال ما فيه من نعم..! والمحزن أنه لايوجد من الأسباب شيء يسوغ كل ذلك الحقد، اللهم إلا الحسد وسوء طوية الحاسد، ونوازع الشر التي تلوث نفسه المريضة الامارة بالسوء.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!

والحاسد قلبه مليء بالحقد على من يحسده؛ ولذلك فعداوته شديدة ولا يرجى لها نهاية ما دام الحسد متمكنا من القلب مستحوذا على مجامع النفس، قال الشافعي رحمه الله تعالى:

كل العداوات قد ترجى مودتها

إلا عداوة من عاداك من حسد

ومن لطف الله تعالى أن المحسود لا يصيبه بفضل الله تعالى أي ضرر من الحاسد ما دام يقرأ الأذكار، ويتحصن بحصن الله الحصين بل المدهش في الأمر أنه قد يزداد علوا ورفعة كلما حسده الحاسد وتكلم عليه..! قال أبو تمام:

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرف العود

وللحسد أضرار جسيمة، ونتائج سيئة، ومآلات خطيرة وعواقب وخيمة على الحاسد أذكر منها ما يلي:

1 - إسخاط الله تعالى في معارضته ومخالفة قضائه وقدره، وفي ذلك قول الشاعر:

أيا حاسدا لي على نعمتي

أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على الله في حكمه

لأنك لم ترض لي ما وهب

فأخزاك ربي بأن زادني

وسد عليك وجوه الطلب

وقال الجاحظ: (ولو لم يدخل رحمك الله على الحاسد بعد تراكم الهموم على قلبه، واستمكان الحزن في جوفه، وكثرة مضضه ووسواس ضميره، وتنغيص عمره وكدر نفسه، ونكد لذاذة معاشه، إلا استصغاره لنعمة الله عنده، وسخطه على سيده بما أفاد الله عبده، وتمنيه عليه أن يرجع في هبته إياه، وألا يرزق أحداً سواه، لكان عند ذوي العقول مرحوماً وكان عندهم في القياس مظلوماً).

2 - الحسرة التي تأكل قلب الحاسد حتى تصبح ألماً في جسده، لأن الحاسد يحقن في جسده الهم والغم والحقد والبغض، وتمنى زوال نعم الآخرين عنهم، وكلما زادت هذه النعم زاد غيظه، قال عمر رضي الله عنه: (يكفيك من الحاسد أن يغنم وقت سرورك) وقال الشاعر:

اصبر على مضض الحسود

فإن صبرك قاتله

كالنار تأكل بعضها

إن لم تجد ما تأكله

وقال آخر:

إني لأرحم حاسدي لفرط ما

ضمت صدورهم من الأوغار

نظروا صنيع الله بي فعيونهم

في جنة وقلوبهم في نار

3 - انخفاض منزلة الحاسد في قلوب الناس، ونفورهم منه حتى يصبح مبغوضاً عندهم، وقد قيل: الحسود لا يسود فيصبح ذمه شائعاً على الألسنة.

4 - إرضاء الشيطان بموافقته له في معصية الله.

5 - إهدار الحسنات وكسب الخطايا والآثام، فإن الحاسد غالباً ما يسعى لإزالة النعمة عن المسحود بقوله أو فعله وفي ذلك إهدار للحسنات، وكسب للسيئات، قال القرطبي- رحمه الله- والحسد مذموم وصاحبه مغموم، وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.

6 - زرع العداوة بين الأصحاب والأقارب وتوهين المجتمع المسلم، وإضعاف بنيانه، وزرع الفرقة في صفوفه، قال الجاحظ عن آثار الحسد: (فمنه تتولد العداوة، وهو سبب كل قطيعة، ومنتج كل وحشة، ومفرق كل جماعة، وقاطع كل رحم بين الأقرباء، ومحدث التفرق بين القرناء، وملقح الشر بين الخلطاء، يكمن في الصدور كمون النار في الحجر).

أيها الإخوة إن الإسلام يرغب في سلامة الصدور، ويدعو إلى تطهير القلوب والنفوس من الآفات والاوضار التي قد تصيبها؛ وذلك كي يبقى المجتمع المسلم مجتمعاً صالحاً متماسكاً تسوده الرحمة، ويعم فيه التكافل والتعاون والإخاء، ونحن في أمس الحاجة إلى نشر قيم المحبة والتسامح والنصائح والتغافر فيما بيننا، كما نحن في مسيس الحاجة إلى بث روح التعاون والتعاضد والمساندة، والحرص على إنجاح العمل الجماعي بصورة أكثر فاعلية، ولا يعني ذلك هدار حق أحد، أو تضييع جهد أحد، كما لا يعني تمييز أحد عن غيره دون وجه حق، بل لابد من فتح أبواب المنافسة الشريفة بين الجميع على مصاريعها؛ لأن التنافس الشريف يعني مزيداً من الكفاءة والجدية والالتزام والانضباط والإبداع والإتقان.. وكل هذه القيم نحن في أمس الحاجة إليها لتحقيق التنمية الشاملة المتكاملة في كل المجالات والميادين، ولكن ينبغي أن نتعلم الفرح بنجاح الآخرين، وأن نتعلم الشعور بسعادة حقيقية تنفجر في أعماقنا حينما نجد غيرنا ينجح، بل علينا أن نتعلم كيف نمد أيدينا للآخرين كي ينجحوا، أخيراً أذكركم بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وجعلنا ممن تزداد بهم الحياة بهجة وسعادة، ويملؤوها خيراً ومحبة وتعاوناً، لا بغضاً وحسداً وكراهية.. اللهم آمين.

- عميد كلية المجتمع بمحافظة شقراء


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد