في مستشفى التأمينات (رعاية) ليلة الأربعاء الأول من رجب للعام 1430هـ كان الأطباء والمسعفون يحاولون إنعاش القلب الذي طالما أسعد الكثير ووقر الكبير ورأف بالفقير والمحتاج وأقرى الضيف وعطف على الصغير وشمل الجميع برعايته.
ليعلن الأطباء رسمياً توقف القلب الكبير ووفاة الوالد حسين الصالح الصغير -رحمه الله تعالى- بعد رحلة مضنية قضاها في مجالات متعددة في خدمة وطنه ومجتمعه ليصلى عليه في حشد مهيب من الناس جمعهم حبهم ووفاءهم لهذا الأب والأخ الذي كان قدوة عملية في الكفاح والتضحية وإنكار الذات وارتباطه بخالقه.
كان النفط يصل إلى مدينة الرياض قديماً من رأس تنوره إلى الرياض عبر الوسيلة الوحيدة المتوفرة آنذاك وهي الإبل وكان الوالد مع إخوته - رحمهم الله جميعا - ينقلون النفط (الآيل) حسب تسميتهم هذه المسافة الطويلة بواسطة البراميل المحملة على ظهور الإبل في رحلة مضنية يكابدون مشقة الطريق ومخاطره ليصلوا به إلى مدينة الرياض ضاربين أروع معاني التضحيات وحمل الأمانة.
بعد ذلك عمل -رحمه الله- في (أرامكو) تعلم خلالها اللغة الإنجليزية ثم ساعد في تشييد مطار الرياض القديم حصل على إثرها على العديد من الشهادات من الشركة الأجنبية المنفذة للمشروع بعدها كانت الثورة الزراعية ناشئة في البلاد وتحتاج لاستخراج المياه للمعدات الارتوازية فأسس شراكة لاستخراج مياه الآبار ليقدم المساعدات عبر مشروعه للمزارعين الذين كانوا يعانون شظف العيش بتسهيل أمورهم والتغاضي عمن لا يستطيع دفع الأجرة منهم بل إنه إذا قدم مكاناً قام بتوزيع ما لديه من (أرزاق) -مواد غذائية - للمحتاج والضعيف. بعدها عمل بنقل المحروقات عبر أراضي الجزيرة المتباعدة وحدث له العديد من القصص مثل انقطاع الوقود عن بعض القرى أثناء السيول فكان يخترق السيول والأخطار لتوصيله للناس وكذلك الدفاع عمن استجار به من أذى الذئاب في إحدى القرى قرب الدوادمي فذهب وقتل الذئب الذي كثيراً ما أقلق الأهالي وأهلك مواشيهم مجسداً أبهى أوصاف البطولة والرجولة.
وكان أخر مطافه أن عمل بالتجارة إبان أيام الطفرة ليكون قدوة للتاجر المسلم فقد جاءته بضاعة قادمة من خارج المملكة فساومه أحد التجار عليها ليشتريها جملةً فاخبره برغبته بأنه سيبيعها بالتفريق فلما كان من الغد إذ قدم عليه تاجر أخر يريد البضاعة بضعف ما أراده التاجر الأول فاعتذر منه لأنه قد نوى بقلبه بيعها للأول رغم أنه لم يصرح له بذلك.
تفرغ بعدها أبو صالح - رحمه الله - للعبادة والتبتل فكان مثالاً لمنهج الدعوة العملية فقد رآه أحد الشباب المقصرين - المتكاسلين عن صلاة الفجر - متجها لقيام الليل بالمسجد الساعة الثانية ليلاً وهو قادم إلى بيته لينام عن فرضه وبعد رؤيته لهذا الشيخ المسن المتكئ على عصاه تثاقل خطاه ليناجي ربه فتأثر ذلك الشاب ولزم روضة المسجد لتكون له صحبة مع الشيخ الوقور. وشاب أخر تأثر من طريقة الركوع لذلك الشيخ وإطالته فيه متكأً على عصاه فيقول ذلك الشاب إنني خجلت من جلده وقلة صبري على العبادة فكانت لي نبراساً في التعامل الجاد في علاقتي بربي. وفي هذه المرحلة كان يحب الخلوة بربه يلتقي بأحبابه يوم الجمعة موصياً إياهم بصلة الرحم وأعمال البر وهو أيضا مستشارهم الأمين وكثيراً ما يدخل بالشفاعة بين المتخاصمين أو لأصحاب الحاجات عند المسؤولين. كان صادقاً عفيفاً عزيز النفس لا يحب أن يخدمه أحد.
وقد رؤي له العديد من الرؤى المبشرة بالخير منذرة بقرب أجله وكان يتلقاها بالبشرى وأنه يحب لقاء ربه ففي أخر يوم له في هذه الفانية تصدق ببرادات مياه قرب الحرم المكي وقد كان يصغي عصر ذلك اليوم لتلاوة إحدى بناته للقرآن فلما وصلت قول الحق جل وعلا (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) فقرأت تفسير تلك الآيات فذرفت عيناه خشوعاً لمولاه. وزاره أحد الجيران فلما أراد أبو صالح النهوض أراد هذا الجار تقريب العصا له فقال له هذه العصا لا أحتاجها هي لك. (وقد صدق فلم يحتجها) بعدها توجه لأبنائه البررة بتوجيه الوصايا والنصائح وبعد أن استكمل طهارته وقضى فرضه فاضت روحه الطيبة لمولاها
أثر سكتة قلبية. ليقام العزاء بفقد الطيب الذي عطر مجتمعه وأسرته أكثر من خمسة أيام لكثرة الوافدين للعزاء من شتى مناطق المملكة بل والله من خارجها والظن والله أعلم أنه بسطت له المحبة في السماء فبسطها له الله عز وجل بالأرض - أحسبه وربي حسيبه ولا أزكيه على خالقه.
اكتب هذا على عجالة وبفكر مشتت وقلب مكلوم بمقالة مختصرة لوالدي الشيخ الجليل حسين الصالح الصغير لم تفي تاريخه المدبج بأسطر من سيرته العطرة
فاللهم أسكنه الجنة واجعل الفردوس مثواه ونور له في قبره واغفر له ولجميع موتى المسلمين.