وبدأت حال القراءة بعد إدراكي أنه حاجة ملحة، فشرعت أقرأ كل ما يتاح لي وهو قليل في تلك الأيام المبكرة، يضاف إلى ذلك الفقر المدقع، لأني عملت تسعة أشهر ملازماً في الجمارك من دون مرتب، أما نسبة فهم ما اقرأ فإنه متواضع جداً إلى حد الضعف والهزال، غير أني لم أيأس ولم أتراجع، ذلك أنني عرفت قيمة القراءة، لكن فهمي لم يرق إلى التقدم بشيءٍ من الكفاية، وفي طفولتي حفظت ما يقرب من نصف الكتاب العزيز، غير أن التعليم لم يتح لي مبكراً، وتحصيلي المحدود الضيق المتأخر لم يهيئني لشيءٍ من العمل، ومنذ أول مرتب من وظيفتي الجمركية، شرعت أنفق شطراً منه على شراء الكتب.. فقتّرت على نفسي بحيث إني كنت اشتري الكتاب على حساب طعامي، وكنت سعيداً بذلك لأن نهمي إلى القراءة لا يقاس عليه في تلك الأيام البعيدة.

لقد كنت اقرأ على فانوس (هندي) في حجرة من لبن، فإذا تعبت استلقي على ظهري اقرأ والفانوس على صفيحة فاضية خلف رأسي، وفي أكثر الأحيان أنام والكتاب على صدري، وأصحو لا أدري متى، فأضع الكتاب جانباً وأطفئ الفانوس، وأكمل نومي.. تلك حقبة كانت قبل عقود، لا اقيسها على ما تلاها في ارتقاء هذا البلد العزيز الكريم.. وأكبر الظن أن الإنسان الذي يدرك الحاجة التي يطمع ويطمح أن يصل إليها، بإصرار ودأب وجد لا حدود له، يصل بحول الله وقوته إلى بلوغ أربه، وأعني المطالب النبيلة إلى الهدف الأسمى.. وهذا النهم الذي وعيته وجعلته نصب عيني كان هاجسي وشاغلي، ومع أني تعرفت على أصدقاء من خلال المعايشة، وكانوا يدعونني إلى السهر معهم وممارسة التسالي بلعب - البلوت -، فإن ذلك المسلك لم يدفع بي إلى الاندماج فيه، فقد رأيت أنه مضيعة لوقت ثمين غالٍ، وأنا ذو حاجة ورغبة عارمة تدفع بي أن أكمل النقص الذي في كياني، ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وهو أن اقرأ واقرأ ما استطعت القراءة، ذلك أن القراءة الحقة تفتح لعاشقها آفاقاً إذا التزم هدفه وحاجته.. وأتيح لي أن أصبح محرراً في جمرك جدة بعد عامين اثنين، لأن مستوى التعبير تحسن عندي، وأصبحت أحسن الكتابة في ممارسة الخطابات الصادرة بلغة تميل إلى الإتقان.. وبالمناسبة، فإن إقامتي في جدة أتاحت لي التعرف على الأستاذ حمزة سعداوي رحمه الله، كان يعلم النحو والبلاغة في مدرسة الفلاح بجدة، وكنت أسكن بالقرب من داره، وكانت جدة يومها مدينة قليلة السكان على الرغم من أهمية موقعها، حيث إنها بوابة الحرمين وبلد تجاري قديم.. فهي محاطة بسور من أبعادها الأربعة وما عداها خلاء ما عدا منطقة الرويس في شمالها والنزلة اليمانية في جنوبها، ومن قراءتي المحدودة جداً أدركت أنني أحتاج إلى أن ترتقي لغتي لتستقيم قراءتي، فرجوت الأستاذ السعداوي أن يعينني في دروس النحو والبلاغة فاستجاب، وبدأ تواصلي معه.. حيث لم يطل مكثي مع الأستاذ محمود عارف في قراءة نظرات المنفلوطي.. وكذلك فإن دراستي للقواعد والبلاغة مع الأستاذ السعداوي لم تطل أيضاً، ذلك أن فيه صرامة الرجل الجاد، وأنا قصرت في أداء الواجب الذي يكلفني به مرتين، فغضب وألقى إليّ بالكراس الذي أدون فيه الواجبات وقال: إذا كنت غير مهيأ إلى ما أقدمت عليه فلا تضيّع وقتي.. وتأثرت لانقطاعي عن مواصلة درسي معه ولمت نفسي، غير أني بعد سنوات معدودة سعيت إليه في مدرسة الفلاح وقدمت إليه كتابي الأول - أمواج وأثباج - في النقد الأدبي -، وكأني أقول له: إن الطالب الذي قصر في مد علاقة الدرس معك، استطاع أن يحاول الكتابة الأدبية على نحو ما!

وكنت اشتري مجلة الرسالة لصاحبها الأستاذ أحمد حسن الزيات كل أسبوع، غير أني لا أحسن فهم مقالات كتابها الكبار وكانوا كلهم كباراً، أمثال العقاد وطه حسين والرافعي وأحمد أمين والمازني وهيكل وآخرين أكفاء، والرسالة تحمل قصائد شعراء مصريين وغيرهم من الوطن العربي، وأستاذي العارف هو الذي دلني على مجلة الرسالة ظناً منه أن تلميذه قادر على فهم ما فيها، وأنني ربما في قابل الأيام أستطيع استيعاب ذلك الأدب العالي المستوى!

وقدر لي بعد أربع سنوات من هذا الدأب في القراءة بتوفيق الله أن أحاول الكتابة ظناً مني أنها مفتاح للظهور، غير أني أدركت بعد ذلك أن القراءة المعمقة ينبغي لها أن تسبق الظهور، لأن النضج أساس لمن يريد أن يظهر، ويشارك بقلمه فيما يخوض فيه الناس أو الكتاب على الأصح، وهكذا طبع الإنسان العجل، لأنه خلق من عجل كما يحدثنا الكتاب العزيز.. غير أن المرء الذي يتحدى نفسه ليكون، ربما أُتيح له قدر من التحصيل، وما دام سائراً على الدرب ومتوكلاً على مولاه، فإن نصيبه من هذه المجاهدة سيثمر ويتحقق، وأنا أتحدث عن نفسي كمثال عبر جهد المقل، أما الطامحون الذين أطالوا التلقي من خلال معلمين كبار فنصيبهم من المعرفة كثير حين يكونون جادين وصادقين، لأن لهم أكثر من سبيل في الدرس والتلقي والسهر الطويل، في صحبة كنوز المعارف وما أكثرها!