تاريخ المملكة، سواء في الحقبتين السعوديتين السابقتين للحقبة الحالية، أو الحقبة التي نعيش في أمنها وخيراتها، مازال يحتاج في رأيي إلى الكثير من البحث والتنقيب والاستقصاء. أحد الفضلاء الأكارم المعنيين بتاريخ المملكة أطلعني مشكوراً على نسخة من مجلة (الخليج للتاريخ والآثار - العدد الرابع الصادر في أبريل 2008 م / ربيع الأول 1429 هـ) ؛ والمجلة دورية علمية (مُحكّمة) تصدر عن جمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون. هذا العدد احتوى عرضاً لدراسة علمية موثقة للدكتورة (دلال بنت مخلد الحربي) وهي أستاذ التاريخ المشارك في كلية الآداب بجامعة الرياض للبنات. الدراسة بعنوان (غالية البقمية حياتها ودورها في مقاومة محمد علي باشا على تُرَبَه).
أهمية هذه الدراسة في تقديري أنها عالجت جانبين: أولهما - وهو الأهم - أنها أثبتت أن هذه المرأة العظيمة في تاريخنا حقيقة ثابتة، وليست وهماً، أو (خرافة)، كما يزعم من يحاولون أن يعيدوا كتابة تاريخناً حسب (أيديولوجياتهم) المعاصرة، لأسباب لا تخفى على من تعامل معهم، ومع خطاباتهم؛ وهذا ما أثبتته المصادر التاريخية المتعددة، التي لا يمكن أن تجمع على خرافة.
الجانب الثاني أنها ألقت الضوء على بعض التفاصيل في حياة هذه الرائدة، بما يكفي لدحض أي ادعاءات تقول إن عاداتنا وتقاليدنا (الموروثة) هي السبب في ما تعانيه المرأة من تهميش وهضم للحقوق. وفي ما تبقى من هذه العجالة سأورد بعض المقتطفات التي لن تروق لدعاة قمع المرأة، ومنعها من العمل، وسجنها في بيتها؛ ولاحظ أن هذه المرأة تعاملت مع أئمة وعلماء الدولة السعودية الأولى، بما لا يدع مجالاً لمغالط أو مكابر أن يدّعي أنهم سيجاملونها - مثلاً - أو سيتركون (منكراً) دون أن يمنعوه.
أهم ما جاء في هذه الدراسة التاريخية العلمية، أنقله بالنص حسب العرض الذي جاء في المجلة:
* (اشتهرت غالية بالشجاعة، خصوصاً في القتال. ونضيف إلى الشجاعة الحزم؛ فهما أمران تجليا بشكل واضح في معاركها ضد حملات محمد علي على تربه؛ لذلك اشتهرت بأنها (أخت غمرات)، وهذا يعني أنها تدربت على الفروسية والقتال من صغرها).
* (كانت تتمتع بشخصية مؤثرة، فكان لها) في معظم الأحوال الكلمة العليا والرأي المطاع، ويتضح ذلك من تأثيرها في المحيطين بها وقت أحداث الحملة المصرية - العثمانية على تربه).
* (من المرجح أن تكون غالية من الذين راق لهم أمر تلك الدعوة الإصلاحية ومن ثم موالاتها ومناصرتها استناداً إلى مناصرتها الدعوة بعد ذلك التي تجلت في مواقفها من الحملة المصرية - العثمانية، ويدل توجهها هذا على حصافتها ورجاحة عقلها وأنها كانت على درجة كبيرة من الثقافة الدينية؛ مما جعلها تميّز صفاء العقيدة التي كانت الدعوة السلفية تنادي بها وتدعو إليها في مقابل ما شابهها من بدع الآخرين).
* ( المعلومات المتوفرة تشير إلى أن فيصل بن سعود (بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود) عندما وصل إلى تربه على رأس قوة عسكرية من أهل نجد وجد غالية أعدّت للأمر عدته؛ فأنفقت أموالاً في سبيل إغراء القبائل بالانضمام إليها، واتخذت من منزلها مقراً للقيادة العامة؛ تعقد فيه الاجتماعات، وتدلي فيه بآراء كان الحاضرون يأخذون بها ويسيرون وفق التدابير التي تضعها لأمور الحرب عامة).
* (كانت غالية في طليعة الجيش، وقاتلت في المعركة بشجاعة منقطعة النظير، وانقضت بجيشها على فرقة المدفعية في قوات مصطفى بك و أجبرتهم على الفرار).
وانتهت الدراسة حسب العرض إلى النتائج التالية:
* (أثبتت أن غالية أدت دوراً فاعلاً في صد حملة محمد علي باشا على تربه، وأنها كانت تمتلك تنظيماً دقيقاً في تلك المقاومة، ولم تكن تسير بطريقة عشوائية).
* (أن المجتمع الذي كانت تعيش فيه غالية، وهو مجتمع ريفي يتكون يتكون من فلاحين وبدو وموالٍ، لم يكن لديه غضاضة في أن تتولى قيادة الدفاع عنه امرأة، وأن يقف هذا المجتمع بأكمله خلفها يدعمها ويساندها لصد الغزاة عنه).
* (أن المجتمع عامة كان مجتمعاً يعترف بمكانة المرأة ودورها، مثَّل ذلك موقف فيصل بن سعود من غالية ومشايخ القبائل الذين لم يروا غضاضة في التعامل معها كشخصية قيادية).
* (أن غالية بما أظهرته من شجاعة وقيادة حظت بإعجاب الطرف الآخر الغازي، ويدل ذلك أن محمد علي باشا نفسه كان في شوق إلى لقائها وأسرها للذهاب بها إلى استنبول لتكون دليلاً على ظفره وانتصاره في معركة بسل).
* (أن معركة بسل كانت معركة فاصلة نتج عنها ترسُّخ نفوذ محمد علي باشا وامتداده في شبه الجزيرة العربية ونهاية مقاومة تربه).
وختاماً أريد من قارئي الكريم أن يقارن مكانة المرأة في تاريخنا، ودورها الريادي الفعال، بوضعها الآن؛ ليعرف - مرة أخرى - كيف كنا وكيف أصبحنا. إلى اللقاء.