يُعد علماء المملكة - منذ عقود - رأس الهرم في المدرسة العلمية السلفية الملتزمة بمنهج الاعتدال، وهم كانوا وما زالوا واسطة العقد لأهل السنة والجماعة في العالم الإسلامي، ولهم من المكانة والتأثير والفضل القدح المعلى، وكانت فئام من الأمة الإسلامية وما زالت تأرز لبلاد الحرمين بحثا عن الفتوى الصحيحة،
والرأي الشرعي المؤصل والاجتهاد الفقهي النابع من علوم الوحيين الكريمين.
وإن مما تفخر به بلادنا وتفاخر أن حباها الله بكوكبة من كبار علماء الشريعة الذين برعوا في فهم مقاصدها وملكوا زمام الاجتهاد فيها وأسهموا بعلمهم وتدريسهم ونشاطهم الدعوي والاجتماعي في تحقيق الأمن الاجتماعي، وشكلت فتاواهم ومواقفهم في المستجدات والنوازل المعاصرة المرجع الشرعي الموثوق لملايين المستفتين في شرق العالم الإسلامي وغربه. وقد كان منهج الاعتدال والوسط الساري في كل ما كتبوا ونطقوا أكبر الأثر في تكثير سواد أهل الصلاح وتقليل أعداد دعاة الغلو والجفاء.
واعتقد جازما أن لدى علماء المملكة الراحلين والمعاصرين من العلوم والمعارف في شتى فروع الشريعة والعقيدة والسلوك ما يستحق التدوين والكتابة المتأنية، وان تحريرهم للمسائل العلمية الدقيقة لو أخذ حقه من الكتابة والمراجعة سيكون له نفع جم في حاضرنا ومستقبلنا.
ونحمد الله أن وفق بعض علمائنا - رحمهم الله - للاهتمام بحفظ علومهم أثناء حياتهم وعافيتهم، فرأينا لهم المؤلفات الجامعة النافعة التي حظيت من العالم نفسه بالمراجعة والإضافة والتعديل بما يتواءم مع طبيعة الكتاب المنشور، منهم على سبيل المثال فضيلة العلامة عبد الرحمن بن سعدي وفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين ومعالي الشيخ بكر أبو زيد وغيرهم من العلماء رحمهم الله جميعاً.
ولكني أرى أن النتاج العلمي المكتوب على هيئة مصنفات ومؤلفات عميقة لعلماء المملكة المعاصرين على وجه العموم أقل بكثير من مستواهم العلمي الرفيع، ولا يوازي بحال من الأحوال مكانتهم السامية لدى طلاب العلم وعامة المسلمين، وكأننا قد اكتفينا من علوم هؤلاء الأفاضل والأكابر بالرسائل العلمية القصيرة والخطب الموسمية والشروح المجترأة، والفتاوى المرتجلة عبر الإذاعة والهاتف؟
وسيظهر لأي متصفح لببلوجرافية مصنفات العلماء السعوديين المعاصرين أن معظم هذه المصنفات والمؤلفات المطبوعة لا ترتقي من حيث القيمة العلمية والمنهجية لمستوى مؤلفات نظرائهم ومجايليهم من المفتين والعلماء في العواصم العلمية الإسلامية الكبرى.
بل حتى بعض النتاج العلمي المنشور لبعض كبار العلماء لم يحظ بإشرافهم أو مراجعتهم أثناء حياتهم، وإنما صدر باجتهاد محمود من طلابهم بعد وفاتهم قياما منهم - جزاهم الله خيرا - ببعض حق علمائهم عليهم.
وكم يتأسف الباحثون اليوم على غياب أو إهمال علوم علماء المملكة العظام الذين اسهموا بها في بناء الوطن، وشاركوا في إعداد رجالاته، وكان لمواقفهم واجتهاداتهم أكبر الأثر في دفع مسيرة التنمية خلال العقود الخمسة الماضية، أمثال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، وسماحة الشيخ عبد الله بن حميد وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وأين هي علوم المشايخ الأجلاء الذين اثروا الساحة العلمية ردحا من الزمن بدروسهم وفتاواهم من أمثال الشيخ عبد الرزاق عفيفي والشيخ عبد الله بن جبرين والشيخ صالح بن غصون والشيخ عبد الله بن قعود.. (رحمهم الله) وغيرهم كثير من العلماء الجهابذة الأفذاذ المشهود لهم بعلو المقام في استيعاب مقاصد الشريعة والتضلع بمنهج السلف، والذب عن حياض الشريعة ممن رحلوا من كبار العلماء.
وإذا كانت الأمة قد أجمعت على المكانة العلمية الحقيقية لهؤلاء الأفذاذ واتفقت على الأخذ منهم والصدور عن اجتهادهم، فلماذا يا ترى تدنى اهتمام هؤلاء العلماء بالتأليف والتصنيف؟ خاصة أنهم يعلمون - ويعلمون طلابهم عظم الأجر والثواب المترتب على توريث العلم النافع وانه من العمل الصالح الذي يرجو المسلم تواصل ثوابه بعد وفاته؟
في اعتقادي أن لذلك جملة من الأسباب منها، أن مشاركة العلماء المعاصرين في الحراك السياسي والاجتماعي وتصديهم للشأن العام في البلاد بوصفهم أحد أهم القوى المؤثرة في المجتمع حتم عليهم إيلاء مزيد من الوقت للمجالات الملحة ذات النفع المتعدي، خاصة أن ولاة الأمر قد اعتمدوا على العلماء في عدد من المواقع المهمة والحساسة والحيوية في المجالات الشرعية أصالة مثل الإفتاء والقضاء، أو ما يتفرع عنها أو يرتبط بها من وجوه أخرى كالتعليم والهيئات والدعوة.. الخ.
كما أن الدارس لسير علمائنا والمتفحص لبرنامج عملهم في اليوم والليلة، يلحظ حرصهم الجم على نفع الناس من خلال التعليم والتدريس، وإسهامهم الدائم في العمل الخيري الاجتماعي، ومشاركتهم الإيجابية في تبصير الناس خلال الأزمات والنوازل.. ويبدو أن كل ذلك الحراك والعطاء قد شغل عليهم أوقاتهم وأخذهم من قاعات التأليف والبحث إلى صدور المجالس والمنابر.
ويظهر لي أن النشأة العلمية (دراسة وتدريسا) والتكوين البنائي الفقهي التقليدي لبعض علمائنا كان على طريقة القدامى ووفق أدواتهم ومن خلال حلقات المساجد وقائما على التلقي والحفظ والاسترجاع، ولم يلتحق معظمهم بالدراسة الأكاديمية القائمة على البحث والكتابة والتحقيق، مما أسهم في ضعف عنايتهم بهذه المجالات على تفاوت بينهم.
كما أن تعدد فروع العلوم التي يتناولها المشايخ في دروسهم العلمية الأسبوعية قد قلل من تركيزهم على فرع بعينه ووزع جهدهم وطاقاتهم واهتماماتهم على عدة مجالات؛ ما أدى إلى ضالة ما يجمع لهم تحت علم أو متن بعينه.
ولكن الحلول - بإذن الله - لاستدراك ما مضى متاحة ومتيسرة أمام محبي هؤلاء العلماء أفرادا ومؤسسات، إذا ما توافرت الرغبة والإرادة والقناعة بأهمية الكنوز والدرر العلمية لهؤلاء الجهابذة، وأهمية حفظ علومهم للأجيال القادمة.
فمثلا أرى أن على مؤسسات المجتمع الثقافية المعنية بالعلوم الشرعية (الجامعات الإسلامية - دور النشر - رئاسة الإفتاء - المؤسسات الخيرية المتخصصة بالشأن الثقافي) مسؤولية كبرى في تبني المشروعات العلمية، ومساعدة الباحثين على استخلاص ونشر علوم علماء المملكة الراحلين والمعاصرين، وتنظيم لقاءات متواصلة للعلماء مع المهتمين بعالم النشر والتأليف بغرض التحاور في سبل التعاون في تحقيق هذه الغاية، وتبادل المنافع في هذا الإطار خاصة إذا علمنا أن الفتاوى غير المنشورة لأحد العلماء تجاوزت الستين ألف فتوى وهي تعد ثروة علمية كبرى لو وجدت طريقها للباحثين القادرين على توظيفها علميا ومنهجيا ووزارة الثقافة والإعلام مطالبة بتذليل الصعوبات النظامية والقانونية التي وقفت في وجه محاولات بعض الدارسين الراغبين في إصدار بعض الشروح النفيسة لعلماء المملكة رحمهم الله، إذ تصطدم رغبة الباحثين وطلاب العلم الذين تتلمذوا على كبار العلماء في إخراج ما لديهم من شروح بشرط أخذ موافقة ورثة العالم على النشر وهذه الموافقة قد تتعثر لأسباب مختلفة، فلو اقتصرت الوزارة على اشتراط موافقة الإعلام الداخلي لديها لزالت احدى العقبات الكبيرة التي تحول دون ظهور جملة من الكتب العلمية النافعة التي تعطلت بسبب اشتراط موافقة الورثة.
كما أننا نؤمل من الجهات البحثية (دور نشر - مراكز أبحاث - وزارة العدل أو الشؤون الإسلامية.. الخ) أن تعمل على تقديم مقترحات علمية للعلماء المعاصرين بغرض الإفادة من تخصصهم الدقيق وخبرتهم السابقة في العمل الديني، وذلك بتقديم أفكار للبدء في تأليف بعض المصنفات أو شرح بعض المتون العلمية، ومن ثم الإسهام في حسن تسويقها عربيا وعالميا لكي تكون في أيدي طلاب العلم والدارسين والمهتمين بالدراسات الإسلامية المعاصرة.
وفي تقديري أن من حق علماء المملكة على الجهات الدعوية والإعلامية المستفتين أن يقللوا من ضغوطهم وإلحاحهم على العلماء ومطاردتهم لهم بالأسئلة والدعوات، سعيا لتوفير بعض الوقت للعلماء كي يخصصوه للكتابة العلمية الرصينة التي يبقى أثرها ويعم نفعها ويدوم تأثيرها عقودا طويلة.
وادعو هنا في نهاية المقالة مقام الرئاسة العامة للإفتاء إلى تبني خطوة أساسية، تتمثل في تفريغ مجموعة من طلاب العلم والباحثين المعروفين من وظائفهم الأساسية، ليسهموا مع الإدارات المعنية بالبحث العلمي في الرئاسة في حفظ وغربلة النتاج العلمي للعلماء الراحلين والمعاصرين حسب الأولويات العلمية التي يقررها سماحة المفتي، وان يكونوا جهازا للتنسيق والمتابعة مع الجهات ذات الصلة بالإرث العلمي لعلماء المملكة الكبار الراحلين والمعاصرين.
ونحمد الله بأن حفظ لنا بين أظهرنا اليوم كوكبة نيرة من علمائنا المباركين الذين نؤمل أن تستشعر مؤسسات المجتمع وأفراده واجبهم نحو حفظ علومهم بشتى الوسائل المتاحة، وان نتنادى جميعا لتوفير الإمكانات البشرية والفنية المعينة لهم على تدوين علومهم ونشرها في العالمين.
mhoshan2000@hotmail.com