إن من سنن الله عز وجل في خلقه أن جعل لأنبيائه وأصفيائه من خلقه أعداء من شياطين الإنس والجن، يزينون لهم أعمالهم، ويشرعون لهم جرائمهم وتصرفاتهم بزخرف من القول وغرورا، فكم صفي الله آذوه، وكم من نبي كريم طردوه وقتلوه، فقال تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم محذراً: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}. وكم حاولت يد الجبن والغدر أن تنال من نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غير ما موقف، لكن الله عز وجل بمنه وكرمه حفظ وسلم، فأخرج أحمد في المسند وغيره عن جابر رضي الله عنه أن رجلا قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال: من يمنعك مني؟ قال: (الله)، فسقط السيف من يده.
|
وإذا كان الأنبياء وهم من هم في القدر والمنزلة والعظمة قد نالهم من الأذى ما نالهم فما ظنك بمن دونهم من الصالحين المصلحين وعباد الله المسلمين، ومن تأمل كتب التاريخ والسير لوجد أن أيادي الحاقدين والشانئين والجهلة الظالمين كم حاولت غير ما مرة استحلال دماء المسلمين تحت ذريعة (الغيرة على الشريعة).
|
ولا شك أن من أعظم ما بلي به المسلمون على مر عصورهم وأزمنتهم هم (الخوارج) الذين استحلوا دماء خير خلق الله بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم أصحابه الأخيار ورجاله الأطهار، ويكفي في هذا أنموذجا ظاهرا، ودليلا بينا، حادثة مقتل عثمان رضي الله عنه، فقد تمالأ عليه جمع من السفلة الأرذال، حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يزعم بعضهم أن دافعهم من فعلتهم الشنيعة، الغيرة على الملة الحنيفية، والسنة النبوية، فأخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى (3-72) بسنده عن الإمام الحسن البصري، قال: أنبأني وثاب وكان فيمن أدركه عتق أمير المؤمنين عمر، وكان بين يدي عثمان، ورأيت بحلقه أثر طعنتين كأنهما كبتان طعنهما يومئذ يوم الدار دار عثمان، قال: بعثني عثمان، فدعوت له الأشتر، فجاء. قال ابن عون: أظنه قال: فطرحت لأمير المؤمنين وسادة، وله وسادة. فقال (عثمان): (يا أشتر، ما يريد الناس مني؟). قال: (ثلاث ليس لك من إحداهن بد). قال: (ما هن؟). قال: (يخيرونك بين أن تخلع لهم أمرهم، فتقول: هذا أمركم فاختاروا له من شئتم، وبين أن تقصّ من نفسك. فإن أبيت هاتين فإن القوم قاتلوك). قال: (أما من إحداهن بد؟). قال: (لا؛ ما من إحداهن بد). قال: (أما أن أخلع لهم أمرهم، فما كنت لأخلع الله. قال: وقال غيره: والله لأن أقدم فتضرب عنقي، أحب إليّ من أن أخلع أمة محمد بعضها على بعض. قالوا: هذا أشبه بكلام عثمان. وأما أن أقص من نفسي، فوالله لقد علمت أن صاحبي بين يدي قد كانا يعاقبان. وما يقوم بُدٌّ في القصاص. وأما أن تقتلوني، فوالله لئن قتلتموني لا الذئبة بعدي أبدا، ولا تصلون بعدي جميعا أبدا، ولا تقاتلون بعدي عدوا جميعا أبدا). ثم قام فانطلق، فمكثا، فقلنا لعل الناس. فجاء رويجل كأنه ذئب، فاطلع من باب ثم رجع. فجاء محمد بن أبي بكر في ثلاثة عشر رجلا، حتى انتهى إلى عثمان. فأخذ بلحيته، فقال بها حتى سمع وقع أضراسه. فقال: (ما أغنى معاوية. ما أغنى عنك ابن عامر. ما أغنت كتبك). فقال: (أرسل لي لحيتي يا ابن أخي. أرسل لي لحيتي يا ابن أخي). قال وثاب: فأنا رأيت استعداء رجل من القوم يعينه، فقام إليه بمشقص حتى وجأ به في رأسه. قال: ثم قلت (الحسن): ثم مه؟ قال: ثم تغاووا والله عليه، حتى قتلوه رحمه الله.
|
والمقصود من هذا بيان أن من تمالأ على خليفة رسول الله، ثالث الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين، هم بعض أبناء صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إن الإمام الحسن البصري رحمه الله كان لا يسميه باسمه ويسميه بالفاسق فانظر يا رعاك الله أن الصلاح والتدين وحده لا يغني ولا يكفي.
|
وقد تكرر هذا المشهد الخارجي زمناً بعد زمن، وذاقت الأمة الإسلامية مرارة هذا المعتقد الفاسد الذي ساهم في قطع أوصال الأمة، وجعلها لقمة سائغة لأعدائها، وقد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم شر وطر تلك الفئة الضالة المضلة على المسلمين، التي تتمظهر بمظهر الدين، وتبطن عقيدة الجهلة الضالين المضلين، فكان هذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر بقتلهم وقتالهم، وإن زعموا أنهم إلى كتاب الله يحتكمون، وإليه ينتهون، وعن الرضى به يصدرون، فقال صلى الله عليه وسلم واصفا مظهرهم بالتدين والدين، محذرا من الاغترار بهم من عامة المسلمين، عازما قتلهم وقتالهم حتى لو أدركهم بعد حين: (يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) (أخرج مسلم وغيره).
|
وما أشبه الليلة بالبارحة! حتى لكأن قائل الخوارج في عصرنا يقول لشياطينه السابقين وأئمته الضالين المضلين: لأتأدبن بآدابكم الصالحة، ولأقتدين بآثاركم الواضحة!.
|
وما فعلته الأيدي الغادرة قبل البارحة من محاولة يائسة للنيل من حامي الملة والدين، ابن ناصر سنة خير الله أجمعين، الذي هو غصة في حلق المخالفين، وأهل الغلو الفاجرين، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز - حفظه الله ورعاه - لهو جرم يدل على خبث الطوية، ومكر وخديعة متأصل في تلك النفوس الضالة غير السوية، تنافي النصوص الشرعية، والأخلاق العربية، والقيم الإنسانية؛ ولكن الله عز وجل بمنه وكرمه سلم، ورد كيد أعدائنا في نحورهم لم ينالوا خيرا.
|
إن هؤلاء الشرذمة الضالة ليس مستغربا عليهم التعدي والقتل وسفك الدماء والتعدي على الأبرياء؛ لكن المستغرب أن يحدث مثل هذا العمل الانتحاري في بلادنا ومن بعض أبنائنا الذين ممن مد إليهم ولاة أمرنا أيديهم، لإصلاحهم، وصلاحهم. إن هذا الحدث يجب ألا يمر هكذا دونما تدقيق ونظر ومراجعة لبعض المواقف من بعض من ينتسب إلى الدين ومعرفة موقفه قولا وفعلا.
|
وإن من الواجب على العلماء والمفتين وطلاب العلم المتخصصين ممن تعرضوا لتلك المسائل لماما أن يتعرضوا لها بوضوح أكثر بيانا، ويبتعدوا عن جمل التلميح، ويقولوا ما أخذ الله عليهم بيانه بالتصريح، نصحا للخلق وإظهارا للحق، وأن ينتقدوا بعض الفتاوى الشاذة التي أجازت إهلاك النفس وإزهاقها وقتلها.
|
وإن من الواجب على الخطباء والمثقفين والعقلاء، خصوصا ممن يتنسب إلى التنسك (الالتزام)، ومن عرفوا بالتباكي على (بعض) بلاد المسلمين، وجمع التواقيع والبيانات، في استنكار بعض الاجتهادات والتصرفات، أن يجردوا سيوف أقلامهم من غمدها، وأن يشهروها في وجه من أراد أن يفرق كلمة هذه الأمة وعدوها، وأن يطلقوها عبارة صريحة، وواضحة صحيحة، في إنكار هذا المنكر العظيم، والشر العميم، دونما أي عبارة يفهم منها تبرير لهذا العمل الإجرامي تحت ستار اللكننة (لكن) وأخواتها، وأن يصفوا أصحابها ومرتكبيها مهما بلغوا بالوصف الشرعي، كما فعل الإمام الحسن البصري.
|
فوالله إن ما حصل قبل ليلة البارحة لهو من أعظم المنكر الواجب إنكاره، والسكوت عنه ممن يملك منبرا دعويا وإرشاديا وتربويا، وقلما مؤثرا علميا، ولسانا عاقلا سويا، لهو من السكوت عن الحق الذي لا يسعه السكوت عنه وإنكاره، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
|
والواجب أيضا على كل من ولاه ولاة الأمر - حفظهم الله - في هذه البلاد أمرا يلزم منه حفظ بلادهم، وولاة أمرهم، التزود بتقوى الله والصبر والمصابرة، فهي سبب الخير والفلاح والإعانة والتوفيق، وقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وفعل الأسباب بأخذ الحيطة والحذر، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ}
|
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يحفظ بلادنا وولاة أمرنا والمسلمين والمسلمات، من كيد الكائدين وحسد الحاسدين، وأن يحفظ أسد الدين، وقامع أهل الغلو المنحرفين عن الصراط المستقيم، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز، ووالده والأسرة المباركة من آل سعود، من الأعداء الحاقدين، وقد أحسن الشيخ سليمان بن سمحان - أحد أعلام الدعوة - في قوله رحمه الله عنهم:
|
أدام لنا ربي بهم كل بهجة |
عن السنن الحاوي لكل المطالب |
وسنة خير العالمين محمد |
نبي الهدى السامي لأعلى المناقب |
|
ومهما ذكرت الحي من آل مقرن |
تهلل وجه الفخر وابتسم المجد |
هموا نصروا الإسلام بالبيض والقنا |
فهم للعدى حتف وهم للهدى جند |
غطارفة ما إن ينال فخارهم |
ومعشر صدق فيهم الجد والحد |
وهم أبحر في الجود أن ذكر الندى |
وإن أشعلت نار الوغى فهم الأسد |
بهم أمَّن الله البلاد وأهلها |
فهم دون ما يخشونه الردم والسد |
فما نحن فيه من نعمة ورخاء وعافية إلا كانوا هم سببها، فشكر الله لهم، وجزاهم عنا خير الجزاء، ورد كيد عدونا وعدوهم في نحره، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم، في الحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس).
|
د. عبدالعزيز بن عبدالله الزير آل حمد |
|