سبق القول إن حادثة الاعتداء الانتحارية الفاشلة تُحسب على الأجندة الفكرية أكثر من الأجندة السياسية لحركات التطرف والتكفير والعنف في المملكة، فهي تحمل (القليل من السياسة الغبية والكثير من التدين المنحرف)،..
ولعلنا نواصل طرح بعض النتائج التي توصلت إليها في بحث علمي سبق لي إنجازه حول ظاهرة الفكر التكفيري الذي أكدت فيه ضرورة تطوير أدوات جديدة لفهم الظاهرة وتشخيصها وعلاجها وما يتطلبه ذلك من ابتكار مصطلحات (انعكاسية)؛ ذات عمق نظري وذات قابلية لأن تكون ضمن أدوات التحليل والتفكير، بجانب بناء وتطوير أدوات استكشاف وقياس دقيقة.
بعد تحليل البيانات الكيفية في ذلك البحث توصلنا إلى نتيجة مبدئية؛ أحسب أنها قد تكون مفتاحاً لفهم بعض أبعاد ظاهرة التكفير وما يرتبط بها من العوامل والظواهر الأخرى، فقد لاحظت أن الجهود والتعبئة التكفيرية تُحدث استجاباتٍ متفاوتةً لدى مختلف الشرائح في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وهنا ينبعث سؤال محوري مفاده: ما السمات والعوامل التي تمكّننا من تفسير تلك المسألة وتتبع حدودها والكشف عن أبعادها؟
هذا السؤال يدفعنا أو يجب أن يدفعنا إلى تطوير بعض المصطلحات الانعكاسية التي تحمل قدرة تفسيرية للظواهر الاجتماعية والإنسانية المعقدة، وللإجابة عن ذلك السؤال طرحتُ مصطلح (القابلية للانصياع)، باعتباره يمثل مدخلاً جيداً لفهم ظاهرة انتشار أو تغلغل الفكر التكفيري لدى الفئات المختلفة وبالذات فئة الشباب، وتعكس تلك القابلية درجة الاستعداد لدى هذا الإنسان أو ذاك لأن ينقاد للفكرة التكفيرية ويتأثر بها، وربما يؤمن بلوازمها المنحرفة المتمثلة في أعمال العنف وجرائمه بمختلف أشكاله ودرجاته. فمثلاً وجدنا أن أحد المتورطين في التكفير وأعمال العنف في السعودية يقول - بالنص -: (قابلته - أي الشخص التكفيري - كان يتحدث عن الجهاد وعن نصرة المسلمين، فتفارقنا أنا وإياه وأخذ رقم جوالي، وعقبها صار يرسلي رسائل جهادية كذا، ويتصل علي يسلم، وصرت عقبها يتصل وأقابله، بداية مقابلتي ما كان يتحدث عن التكفير أبداً، ولا كان يتحدث عن تحريم المدارس أبداً ولا شيء أبداً، كان فقط يسهّل الأمور لي، فقط يتكلم عن الجهاد، يوم شافني - حين رآني - أتقبل ولا أناقش، أنا ما أناقش اللي قدامي، يوم شافني أتقبل كذا، بدأ يسب الدولة فقط، بداية ما كان يكفّر، بداية سب الدولة فقط، بعدين على شوي شوي قال الدولة أصلاً كافرة) (جريدة الوطن السعودية، 13-1-2004). ويقول متورط آخر باستعدادات فكرية ونفسية مشابهة: (هذا الفكر خطر، لأنه الفكر أصله أنك تفدي نفسك، يكون عندك الفكر هذا، وبدأ التأثير فيك وتمكّن منك، خلاص، بترمي نفسك، بتقتل نفسك، وهنا خطورته أنك زي الأعمى، يعطيك مساراً تمشي فيه، خلاص، وتبدأ تمشي فيه إلى نهايته وتنفجر، وتقتل، وتقتل ناس معاك) (صحيفة الحياة اللندنية 15- 5-2007).
وفكرة القابلية للانصياع يمكن أن تفتت إلى أربعة أجزاء: جزء يعود إلى الإنسان المستهدف (الضحية)، وجزء يعود إلى الإنسان التكفيري (الجاني)، وجزء ثالث يتعلق بالفكرة التكفيرية، وجزء رابع يرتبط بالفضاء الثقافي والسياسي والحالة الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية في المجتمع. وتتضافر تلك الأجزاء مجتمعة لكي تخلق لدى الضحية ما نسميه (القابلية للانصياع)، كبذرة نفسية فكرية، وكفكرة جوهرية مهيمنة على جهازه المعرفي، مما يصيبه بأعلى مستويات التحيز؛ فلا يلتقط جهازه المعرفي حينما يفكر أو ينظر في المسائل والقضايا والمشكلات إلا السمات والخصائص والعوامل التي تتفق مع تلك الفكرة وتنسجم مع مقتضياتها، وقد تنمو تلك القابلية بشكل أو بآخر؛ وبوتيرة سريعة أو بطيئة، وبأسلوب واضح أو غامض، وعلى نحو كامل أو جزئي، وبطريقة قد تفشل أو تنجح، لنكون قبالة تهديد خطير بنشوء شرائح تكفيرية متجددة تغذي أعمال العنف وتزيد أواره.
وفي نهاية المقال أود التأكيد على النقاط التالية:
1 - أرجو أن نقتنع بأن التكفير بات - على الأقل - من المسائل الفكرية (المستوطنة) بشكل ما وبقدر ما، وهو ظاهرة معقدة للغاية، مما يتطلب جهوداً بحثية وفكرية معمقة وشجاعة للتنقيب والخلوص إلى نتائج دقيقة حول مصادره الفكرية وبواعثه الحقيقية باختلاف تشكلاتها وتنوع روافدها الصغرى، على أن يكون ذلك في إطار المنهجية العلمية الصارمة التي ترتفع عن النظرات الضيقة أو الحسابات الأيديولوجية السخيفة.
2 - أعتقد أن مسائل وفتاوى التكفير يجب أن ُتناط بجهات قضائية مختصة؛ وفق إطار تشريعي متكامل، توضح فيه الآليات والإجراءات، على أن ينعكس ذلك على الأطر العلمية التي يتبناها العلماء والمختصون الشرعيون في تدريسهم لمباحث العقيدة في المؤسسات العلمية والمساجد وغيرها، فليس ثمة تعارض بين تدريس العقيدة والوفاء بأحد أهم أركان الدولة الحديثة الذي يتجسد في بناء وتطوير البنية التشريعية المتكاملة بجانبيها المؤسساتي والإجرائي، والالتزام الكامل بها من قبل الكافة.
3 - أن تتبنى المؤسسات البحثية دعم تنفيذ دراسات علمية تقوم على منهج التخصصات المتداخلة لدراسة ظاهرة التكفير وما يرتبط بها من العوامل والظواهر، ولا سيما فيما بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية، مع التركيز على الأبحاث الكيفية (النوعية) Qualitative Research.
4 - ضرورة تطوير وسائل للكشف عن أنماط الشخصيات التكفيرية، على أن تشمل المراحل التعليمية المبكرة.
5 - هنالك حاجة ماسة إلى تنفيذ دراسات تطبيقية في الأطر والبيئات العلمية والفكرية، من خلال اتباع منهجية تمكّن الباحثين من تتبع تطور الأفكار في الأذهان باختلاف أنماط التفكير وأنماط الشخصية لكل من المعلمين والمتعلمين، على أن تكون دراسات طولية ودراسات عرضية.
6 - من الضروري القيام بجهود علمية كافية لدمج التثقيف الأمني في المناهج الدراسية في ضوء إطار تشريعي متكامل.
وأختم بالقول إن التكفير موضوع خطر ومعقد للغاية ويحتاج إلى بذل جهود بحثية وفكرية تراكمية وبنفس طويل، كما أنني أؤكد أهمية أن تتسع صدورنا للآراء المتنوعة إزاء التشخيص أو العلاج لتلك الظاهرة في ظل ثوابتنا الوطنية مع وجوب التفريق بين (التفسير) و(التبرير) للآراء المتطرفة أو التصرفات العنيفة، وأحسب أن تلك الحادثة المفصلية لها ما بعدها في الأطر الفكرية والسلوكية، وهي تدفع بإيجاد تحليل وتشخيص دقيقين (على نار المنهجية العلمية الهادئة)!!
Beraidi2@yahoo.com