في خضم ذهولنا أمام الجريمة النكراء التي كادت أن تودي بالأمير محمد بن نايف، ظهر علينا أحد أساتذة جامعة الإمام المتقاعدين ببيان يعترض فيه على بعض القضايا الاجتهادية، وينتهي -كالعادة- بالحكم على أن تعامل الدولة مع هذه القضايا هو (حكم بغير ما أنزل الله).
وأنا هنا لن أتحدث عن (التوقيت) الذي اختاره هذا الشيخ لإصدار بيانه، وما قد يحتويه هذا التوقيت من مؤشرات؛ سأتجاوزه، وسأتناول بالبحث والنقاش ما جاء في البيان:
أولاً:
جاء في البيان: (اسم هيئة حقوق الإنسان مصطلح غربي يقوم نظامه على رعاية حقوق الإنسان من حيث هو إنسان دون اعتبار لاختلاف الدين. وهيئة حقوق الإنسان في المملكة نظامها مبني على ما يتفق مع أنظمة حقوق الإنسان الدولية، كما نص نظام الهيئة على ذلك، جاء في المادة الأولى: وتهدف إلى حماية حقوق الإنسان وتعزيزها وفقاً لمعايير حقوق الإنسان الدولية في جميع المجالات). انتهى.
لا أدري: هل سمع الشيخ، أو قرأ، أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- شهد في دار عبدالله بن جدعان في مكة المكرمة قبل البعثة حلفاً يُسمى (حلف الفضول)؛ وقال عنه: لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت؟ أريد من الشيخ -أنار الله بصيرته- أن يطلب من أحد طلابه (غير الحركيين) أن يقرأ عليه ما ورد عن ذلك الحلف في كتب السيرة، ويُقارن بينه وبين اتفاقيات حقوق الإنسان؛ فهذا الحلف أقدم وثيقة بشرية في هذه المجالات!..
نقطة ثانية في هذا السياق، ربما لم يخبره عنها من حوله، مفادها أن حكومة المملكة (تتحفظ) دائماً على ما تراه مخالفاً للشريعة عند توقيعها على هذه الاتفاقيات؛ وتحفظها يُعطيها الحق (كاملاً) بعدم الالتزام بما تحفظت عليه. أما اعتراضه على اسم (حقوق الإنسان) على اعتبار انه مصطلح غربي (كذا) فهو اعتراض لا يمكن قبوله؛ فلقب (دكتور) الذي يسبق اسمه -مثلاً- هو مصطلح غربي أيضاً؛ فهل تنبه -حفظه الله- إلى هذا المطب!
ثانياً:
جاء في البيان: (هذا التوجه من هيئة حقوق الإنسان ووزارة العدل وسعيهما إلى إعداد نظام جديد يقنن زواج القاصرات في المملكة توجه غير رشيد (كذا) وسعي في باطل، فإن سن قانون يمنع من تزويج الصغيرات ويحدد سنًّا لزواجهن أو زواج الكبيرات مخالف لدلالة الكتاب والسنة، ولما أجمع عليه المسلمون من عهد الصحابة رضوان الله عليهم، كما قرر ذلك الأئمة في مصنفاتهم في المذاهب الأربعة وغيرها، وممن نقل الإجماع على جواز زواج الصغيرة: ابن المنذر، والنووي وابن عبد البر والموفق ابن قدامة والكاساني، رحمهم الله ). انتهى.
لو سألت أحد صغار طلبة العلم، ممن له اطلاع على أصول الفقه، لأجابك بأن (تقييد المباح) حق من حقوق ولي الأمر صاحب البيعة متى ما رأى مصلحة تمليها تغيّر الظروف ومصالح المسلمين؛ وهذا (الحق) لا ينازعه فيه إلا (مُشاغب).. وكما تعلم، فإن الأصل في الزواج الإباحة. وعليه، فيجوز لولي الأمر تقييد (الزواج) متى ما رأى مصلحة في ذلك.
مثلاً: (منع) عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- زواج الصحابة في عهده من الكتابيات لمصلحة ارتآها فقيّدَ مباحاً؛ فهل تراه -يا فضيلة الشيخ- (حَرّم) حلالاً؟ حاشا وكلا؛ وأربأ بك أن تنزلق في هذه المنزلقات وأنت أستاذ سابق في الشريعة!
ثالثاً:
جاء في البيان: (وكل قانون يضاد حكم الشريعة ومقصودها فهو من الحكم بغير ما أنزل الله؛ فإن منع تزويج الصغار وتحديد سن النكاح هو من تحريم الحلال، وإذاً فلا حرمة لهذا القانون وتجوز مخالفته ولا يفسد النكاح بمخالفته). انتهى.
لا ريب، ولا خلاف إطلاقاً، أن أيّ قانون يخالف الشريعة هو حكم بغير ما أنزل الله.. ولكن من الذي يُقرر مخالفة الأنظمة والقوانين للشريعة؟ أي أحد، أم أصحاب الاختصاص؟ فإذا اتفقت معي على أنهم أصحاب الاختصاص؛ فوزارة العدل ممثلة بوزيرها المفوض من ولي الأمر صاحب البيعة، وطاقمه الإداري من المتخصصين في الشريعة، هم أهل اختصاص؛ وهم أصحاب علم وخبرة ودربة تفوق وبمراحل علم وخبرة مجرد فقيه لم يُعرف عنه إلا أنه أستاذ في كلية الشريعة ثم تقاعد ليس إلا.
وقبل أن أختم أقول: اقرؤوا (ما بين سطور) هذا البيان، لتعرفوا أن (التشدد) كثقافة هو الذي أفرز لنا أمثال الانتحاري عبدالله عسيري.
إلى اللقاء.