من أرهق الطموح والوعي وجوده غابت به الرحلة بقدر يواكب قدره من السنين لتجده في مكان مساحته ما استطاع من أبعاد النفس، أو استضافة الكون بسعته حين يطرق بابه ليقول: أنا عند الباب ضيف فهل تقرئني؟
فيرد القول بترحاب وهو يذكره بما يسهل استضافته، وأن ..
...ذلك سؤال بوعي، وفطنة بسعة من الأفق ومن على المدخل تأكد كل منهم معرفته بالآخر فدلج على الرحب والسعة، فأرسل بهذه الخواطر، ومنها خاطرة السؤال فيها: (من يدري ما تأتي به الأيام؟) أودعها كتابه (خاطرات أرقني سراها).
إن الخواطر حين تتراكم فالإدراك والوعي بها يحولها إلى مادة فكر وتأمل تأخذ بهما التساؤلات إلى مدى بعيد، وما بين السؤال ومحاولة الإجابة عليه لابد من إدراك واعٍ تتوجه له تلك الخاطرة حتى يأتي بمحصلة ونتيجة تميزها الأسس التي كانت وراء ولادتها.
فالماضي وتجاربه وما استدعت الذاكرة منه وما صاحبه من استنتاج وعبرة يختلف أمرها بين الناس، فهو عابر وأن تذكر الإنسان أحداثه، ومن يقرأ الجوهر ويتأثر به ويؤثر فيه سيتفاعل معهما كأحداث وقراءات يتعاقب السؤال عليها ويجتهد الجواب ليصيغ المسيرة التي ما بين سؤال ومحاولة الإجابة عنه، إذ تتداعى معه معطيات من الماضي والحاضر ليستشعر بعد ذلك ما هو قادم مع الأيام؟.
فالسؤال من أهم الوسائل التي تحرك الزمن في تقلباته ما بين إمكان مضى وأبقى عبرته، وحاضر يتواصل التفاعل معه، وفي هذا تكمن الأسباب التي يتميز بها السؤال حول ما يعيه الإنسان من فعل ورد فعل لحركةٍ لا سكون معها في زمن يفرض مكانه وإمكانه مع استمرار دورته بما يُملي على الإنسان من معطيات تنبثق معها المشاعر معبرة عن الحيرة وملحة في طلب الجواب فتأتي بذلك الخواطر التي تدفع بالأفكار، وفي سفر الكون يتأمل الوسيلة التي قد تمن عليه بما يصبو ويريد، ومع ذلك تتسع دائرة السؤال في حالة من التتابع والإلحاح.
وللخاطرة حضور مميز، ومنها:
(الخاطرة الكسيرة لا تمشي إلا وبيدها عُكَّاز، وعكاز هذه الخاطرة هي الأخرى كسيرة لا تتحمل من يتكئ عليها. وهنا تبرك الخاطرة على الركب وتزحف كطفل فقد أمه ولم يجد من يدربه على الخطو، ظل يصرخ في مهاده لأنه يتيم الأم، وأبوه الكادح يلهث وراء رزقه.
هذه الخاطرة العرجاء في كل عضو من أعضائها لا أدري لو أنها اتكأت على القلم ولاذت به ليحملها على أكتافه ويمشي بها على الورق، استكون من حالبات الضرع ومرضعات الثدي أطفال الذكريات..؟ لا أدري.
قطرات من الدموع تتقاطر على ورقي يوم جف الثدي حين جف قلب قُساة البشر!
لا تفلح الخاطرة في مسعاها إذا هي شمرت عن ساقها وخاضت في الوحل، فالنظافة من الإيمان.. لا أعرف لي مع الحياة مع الخاطرات ومع الذكريات سكناً لم تهدم رواقه أو تهزه رياح الشك، فروائح الحياة في الإنسان وفي كل الكائنات قواريرها مليئة بالألوان والروائح المختلفة في الأنوف المختلفة. كل لديه حاسة الشم وتلوين الأشياء في الكون وفي الطبيعة..
وعلى مذهب الشك ركض كل حصانه ظناً منه أن اليقين جالس في خيمته في انتظار راكب الحصان.. ساءل الإنسان النجوم وغازلها، وعاشر الطبيعة وشكا إليها، ساءل الغموض: متى تحسر اللثام؟ استنطق الصمت فلم ينطق بشيء!
ألعق جراحي كلما عمقت خناجر الشك الجراح عندي، فهذه الخاطرة كم أرقتني حين ترفع اللحاف وتندس ضجيعة لي فيه.. منذ أربعين عاماً تزاحمت على بيتي ركبان من التساؤلات، كل يغني على ليلاه. وقد كنت آنذاك مزرعة لبذور التساؤلات تخلت عني معها ساكنات البيت عندي فصرت والقلق والضجر ودائع لتساؤلات عادت إلي منكسة الرؤوس ذليلة أفرغتني من عزائي في الحياة ومن احتمالي وصبري، ولماذا نركض وراء كل شيء هش لا يصمد ولا يستضيفنا على مائدة كريم؟ نجوع ونظمأ ونركض وراء الظنون والأوهام نستسقيها ونستطعهما وهي الوهم وهي الخرافة، ولماذا يكون للتخريف مذهب نقاتل دونه ونرثه ونورثه؟ هل الإنسان خرافي؟ هل مرت به أزمنة ودهور عجز فيها أن يرى جوهره فصنع الخرافة وتمثلها حتى صارت من حلائل بيته الذاتي يتعشقها ويضاجعها ويسجد في محرابها وهي الخرافة..؟)
الخاطرة بفكرها وما أتت به تأكيد للحيرة التي فرضت نفسها على طريق الحياة الذي يسلكه كل كائن، تمر بنا أسراب من عبر الحياة وبنادقنا معلقة على الأوتاد ما صوبنا رمية واحدة إلى عبرة من العبر لنصطادها وندخلها في بيوتنا التي لا سمع لها ولا بصر. ويسترسل بفيض مع ما توحي به الخاطرة على فكره ليقول: (فهذا العصركلما حاول الإنسان أن يبتعد عنه وعن أخباره وعن مقاييس العلم له سفرت له في الآفاق البعيدة بسمات العلم على شفاهٍ صمتت دهورا ثم نطقت بما يحني رقبة الكون خاشعة لبارئها.. ومن يدري ماذا ستأتي به الأيام وماذا ستعلق على رقبة الحياة..؟).
إنه الشك يقف به عند أقدام الحيرة.. يلعقان فضلات الجسد ودمامة العقل الذي عجز أن يرى الجمال حتى في الدمامة، ومن يترك حصانه ويكسر حافره في معركة الصراع ماذا سيركب وبم يعتاضُ عن جواد طال هذيبه وراء السراب..؟.
(هذا ما أبحث من أجله عن حصان ذاتي يوصلني إليه)
خاطرة أضنت الذات وألح الحاضر وهو متكئ على عبرة الماضي بالسؤال لعل شيئاً ظاهرا يستطيع النطق بما يمكن الاستشعار به من مجهول الأيام وماذا ستأتي به؟.. إن الناس أعداء لما جهلوا، وإن جهلوه لابد أن يفسروا الشيء بقدر الوعي لديهم، ليتحول كل منهم إلى مؤلف وناشر للخرافة والاسطورة اللتين تستضيفهما في نزلٍ خرب، فلقد خلق الحق سبحانه وتعالى الإنسان في أحسن تقويم إلا أن الإنسان لا يسلك من الطريق ما يرى معه الجمال في نفسه وفي الكون من حوله، فيضيق وعقله مرتبك، فلابد من التردي والعجز والانسجام مع قدر الله فيما خلق من أحسن تقويم، والله الموفق.