حينما يشرق العيد وتطل ملامحه البهية يملأ الأفئدة وضاءة تطفح إفرازاتها بشكل سافر على الوجوه فتنطق قسمات معالمها بمعاني الصفاء، وتعبر تضاريس المحيا عن دلالات النقاء. حينما نعيش العيد بكل أسراره وبكافة مدلولاته البالغة في الجمالية منتهاها، فإننا ننطلق نحو أفق أرحب..
...يزيح عن كواهلنا تلك التراكمات السلبية التي شُحنّا بها طيلة أيام العام ومن جرائها انبتت كثير من الأواصر على نحو هدد اللُحمة العامة بالانفصام وبالتالي تعريضها لشواظ التجافي. في تلك المناسبة العطرة يفترض محاصرة سحب الكآبة وملاحقة عوامل اغتيال البهجة التي يُروج لها - كضرب من الاجتهاد المنافي لمقتضيات الصوابية - في بعض السياقات بحجة لفت الأنظار نحو المآسي التي يتجشم عناءها إخواننا المسلمون في شتى بقاع المعمورة. نعم، الإنسان الإيجابي يحمل همّ إخوانه، ويستشعر أحاسيسهم، ويتفاعل مع قضاياهم، بيْد أنّ هذا لا يسوغ أن يكون عائقاً عن الفرح بالعيد، والجذل بإشراق شمسه. ثمة من يحوّل يوم العيد إلى مصدر - لا يكف عن التدفق - لضروب الأسى من خلال المبالغة المفرطة في تعداد الجراحات، واستعراض أشكال المبكيات، وتصوير بواعث استدرار الدموع، ومع أنّ هذا الصنف يُحمد له غيرته، وتحسب له نخوته، إلاّ أنّ المفترض التوازن والاعتدال، والتعاطي مع كل مقام بما يلائمه من قوالب المقال، ومنح كل مناسبة حقها. تلك الثقافة المفعمة بروح الحزن يفترض إشاعة المفاهيم المضادة لها، فمناصرة إخواننا في الملّة ليس مرهوناً بالانحباس في أطر الأسى والقلق والكآبة والاسترسال المتناهي المدى مع تلك المشاعر الوجدانية، فالشخصية الغارقة في تلك الوضعية المفعمة بمنظومة مشاعرية مسكونة بالتجهم العبوس، ليس بمقدورها تجسيد ما تصبو إليه، لأنّ الشعور البالغ بالتعاسة أخذ عليها أقطارها ودمرها من الداخل على نحو يحول بينها وبين التمدد والانطلاق. إنّ علينا أن نقاوم الملامح المفصلية الحرجة في هذا المنعطف التاريخي من خلال التواصي بإشاعة التفاؤل والمرح والمبادرة بالتخطيط والاحتفاء بالتعليم وإعلاء مستوى الهمم وتأهيل شباب الأمة للمشاركة في وضع لبنات البناء العام، لا بتحويل العيد إلى أحد العقابيل العائقة دون التلبس بالبعد الفرائحي والحائلة دون الاتزار بأفق التفاؤل والتقلب بين موائده ومن ثم التنعم بمخرجاته. إنه لا يليق لنا أن نتخذ من يوم العيد فرصة سانحة للبكاء والعويل والتسويق لمبلورات الإحباط وإشاعة مصادر النكد وتبديد مساحات الفرح لصالح ترسيخ ثقافة التباكي. الاهتمام بقضايا المسلمين مطلب إسلامي لاشك، لكن هذا لا يعني أن يحاصر الإنسان ذاته بدوائر من الهموم المقلقة، فذلك له عوائده الانعكاسية الضاربة في جذور السلب، ولو تأملنا في المسلك النبوي الكريم لألفيناه يبث عوامل مضاعفة حقول الابتسام، ويجذر وضعيات الاستبشار ويعمق صورها في أشد الظروف سوءاً. إنّ التحدي الحقيقي يكمن في مجابهة الكوارث المحدقة واستقبال الأهوال اللاحقة لا بأفئدة منخوبة عاث بها القلق وآل بها إلى الذبول، وإنما بأفئدة تفيض بالمرح وترفرف عليها آيات الانشراح، فالابتسامة الواثقة والفرح المعتدل يبعث في النفس جرعات مكثفة من الطاقة، ويحدوها نحو العمل الذي يشكل معراجاً نحو القوة وخطّاً موصولاً بمعاني الانتصار، ويجعل المرء يتشبّع بالحيوية المتدفقة التي تضيء له الدرب وتُعبّد له السُّبل. إنّ إطلاق العنان للابتسامة التي ترتسم فتعلو الشفاه وتزين جغرافيا الملامح الشخصية ليس عملاً ميكانيكياً فحسب، بل هو نشاط تعبُّدي يجني صاحبه من ورائه ما يترتب عليه من مثوبة، أكد عليها الخطاب النبوي الكريم مقرراً أنّ (تبسُّمك في وجه أخيك صدقة).