قال صاحبي: رأيت مجنوناً في أزقة المدينة يقذفه الصبيان بالحجارة، وهو يلوذ بالفرار، يروم النجاة بنفسه. قال: فعجبت! أمجنون يحفظ نفسه من التلف، وعاقل يقطع جسده بأبشع صورة؟! فقلت: لعلك تقصد ما أقدم عليه الآثم في مجلس الأمير الشهم؟ قال: هو ذاك.
قلت: لا تعجب، فإن أفراد ذلك التنظيم الضال، قد طاشت عقولهم، ورخصت في سبيل عقيدتهم نفوسهم، تلك العقيدة التي بنيت على فهم أحادي، لا يقبل النظر ولا المراجعة..إن تنظيم القاعدة قد استعبد أتباعه فصاروا كالمماليك بأيدي أسيادهم، لا بل كالآلات التي تعمل عن بعد (بالريموت)، والحادثة الشنيعة البشعة تؤيد ذلك.
لقد تألمت كما تألم كل من سمع تلك المحادثة الهاتفية التي دارت بين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف، وبين ذلك الشاب المعتدي الخائن، تلك المحادثة التي تدل على شهامة الأمير وكرمه ورحمته بأولئك الشباب الذين شحنت نفوسهم بالنظرة التشاؤمية للحياة، وكراهية الدنيا، وإن كان فيها الوالدان والزوجة والأولاد.
لقد غيب التنظيم عقول هؤلاء عن الاستماع لغير قادة التنظيم، الذين أوعزوا لهم بأنهم المنفردون بالإيمان الكامل والعلم الراسخ، وأن غيرهم أهل دنيا ما بين كافر ومنافق!.. لقد ضللوا أتباعهم وكرسوا في نفوسهم بأنهم البقية الباقية من أهل الإيمان، المستحقون للخلود في الجنان..
وأطروهم على العبادات الشاقة التي تنسيهم ما هم فيه من الضلال الفكري، وتلهيهم عن الميل إلى ملذات الدنيا وشهواتها مما أحل الله..فلا يغتر مسلم بكثرة عباداتهم من صلاة وصوم وقراءة قرآن.. فالخوارج الذين اعتبر الصحابة قتالهم من العبادات التي يتقرب بها إلى الله كانوا كذلك، حتى قال نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - في وصفهم: (تحقرون (أي: تستقلون) صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم..) وهذا الإمام ابن عباس رضي الله عنه عندما قدم إلى الخوارج يريد أن يردهم إلى الجادة، يقول: (أتيتهم فدخلت على أقوام لم أر أشد اجتهاداً منهم، أيديهم كأنها ثفن الإبل (ما غلظ من ركبتيها) ووجوههم معلمة من آثار السجود)!.ولا يغتر مسلم ببياناتهم وخطبهم التي يكثرون فيها من نصوص القرآن والسنة، فقد كان خلفهم من الخوارج، قد اشتهروا بالفصاحة وقوة التأثير على الناس، ولهم خطب وأشعار ومجادلات مذكورة في كتب الأدب، كالكامل للمبرد، والعقد الفريد لابن عبدربه وغيرهما وكتب التاريخ..
وقد كان الخوارج لهم إقدام على الحروب، وشجاعة في ساحات القتال، واستهداف للمخاطر من غير دافع قوي لذلك.. مما لا شك من تأمل حالهم أن دافعهم الهوس والاضطراب.. لكن لم يعرف عنهم الانتحار، وتمزيق أجسادهم، كما يفعل اليوم أتباع التنظيم الدموي الجاهلي.
وإن كان هؤلاء لا ينتحلون معتقدات الخوارج السابقين في مسائل الإلهيات، إلا أنهم ينتهجون نهج الخوارج في تكفير عصاة المؤمنين، والخروج على الولاة، ومفارقة الجماعة، لأنهم فهموا نصوص الشريعة على غير وجهها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم)، فهم أبعد ما يكونون عن فهم معناه ومعرفة تأويله.
ولقد اطلعت على شغب عدد من الحركات الثورية عبر التاريخ فلم أر كتنظيم القاعدة دموية وعنفاً مع هيمنته العجيبة على عقول أفراده وأتباعه.. وهذا مكمن الخطر من هذا التنظيم.حمى الله هذا البلد الأمين شعباً وحكومة من شرهم، ورد كيدهم في نحورهم، وسلم المسلمين في العالم من عدوانهم، والحمد لله على سلامة الأمير الشهم الكريم، والله يتولانا برحمته ولطفه.
د. يوسف بن علي الطريف
رئيس قسم العقيدة في كلية الشريعة بجامعة القصيم
yaat33@gmail.com