حينما انتهى بنا الإمام من صلاة القيام في ليلة من ليالي العشر الأخيرة من رمضان المبارك، كان أمام كل مصلٍ كتاب صغير لمؤلف جليل، نحسبه والله حسيبه من أهل العلم والفضل، بعنوان: (حب الوطن من منظور شرعي)، وقد تولت طباعته جهة حكومية ذات نشاط طيب في مثل هذا المجال..
تناولته وبدأت بفحص مباحثه، وسررت بما تضمنه الكتاب من أدلة شرعية على حب الوطن، إلا أن المبحث الأخير (الغلو في الوطنية) قد عكر صفو تلك الفرحة التي غمرتني وبخاصة أن هذا المبحث يطلع عليه مختلف الفئات، وغالباً ما يثبت من كل كتاب في ذهن القارئ الخلاصة والنهاية والنتيجة، ولم يكن هناك مسوغ لنقل كلام الشيخ محمد الغزالي لنا في السعودية عن الغلو في الوطنية، حيث قال: (ولكن العصور الحديثة طورت هذا المعنى الساذج، وجعلت الوطنية ولاء للتراب وعبادة له وقياماً بحقوقه وتفانياً فيه، والعمل به. أي جعلت الوطن إلهاً، والتعلق به عبادة وضخمت المشاعر الإنسانية حول هذا المحور المسحور، بحيث ابتلعت علاقات الناس بدينهم فإذا لم تفلح في إزالتها أفلحت في تأخير رتبتها، وإخفات الكلام عنها، وإماتة أحكامها ووصاياها.
وهذا الضرب من الوثنية ينكره الإسلام أشد الإنكار، إن ارتفاق البشر من مكان ما لا يطوع لهم عبادة هذا المكان... أما الوطنية بالمعنى المجتلب من الغرب فهي مستحدث في حضارتنا وتاريخنا لا نقره ولا نرضاه).
وهذا النقل من المؤلف في غير موضعه، لأنه نقله من كتاب الغزالي (حقيقة القومية العربية وأسطورة البعث العربي)، ويظهر من خلال العنوان أن هذا الكلام جاء في سياق نقد الفكر القومي والمبادئ البعثية، وليس لها ارتباط فيما يخص الغريزة والفطرة، والدليل على ذلك أن الغزالي نفسه من أشد الناس تعلقاً وحباً لوطنه مصر، فلم يغادرها مع تعرضه للسجون والتعذيب، ولم نجد أحداً منذ فجر التاريخ عبد أرضاً أو سجد لتراب، كما أن القوميين والبعثيين كان ولاؤهم للفكر ومبادئ الحزب بمفهوم عام أينما وجد، دون النظر إلى حدود الوطن بمفهومه الخاص، وكانت القومية مطية لتحقيق الأهداف الحزبية.. وبما أننا في وطن لا يؤمن بالحزبية ولا بالقومية، فليس من المناسب الاستشهاد بهذا الكلام الذي جاء في سياقات وظروف خاصة غير متوافرة في بيئتنا، ثم إن المؤلف كان قصده غرس حب المملكة العربية السعودية وتقرير مفهوم الوطنية في النفوس والنص على أنه لا يتعارض مع المفهوم الشرعي في ظل واقع أصبح ينتزع من تلك النفوس حب الوطن بسموغات وهمية لتحقيق أهداف حركية تحارب هذا المفهوم الذي تقره الفطرة والجبلة الإنسانية، والمؤسف أن المؤلف لم يأت بمثال واحد يبين لنا حقيقة هذا الغلو، ولم يضع ضوابط يعرف من خلالها القارئ الغلو المرفوض، وإنما جاء بكلام عام يفسره كل قارئ تفسيراً مختلفاً قد يظن من خلاله أن الحديث عن الوطن واحترام رموزه من حاكم وعالم وعلم وخارطة وعملة محذور شرعي، ويتهم كل شاعر يتغنى بقصيدة وطنية أو كاتب يثني على الوطن ويدافع عن قضاياه بأنه تجاوز الحدود إلى الغلو المرفوض.. فتكون كلمة حق أريد بها باطل!.
والمشكلة أن هذا الكتاب تناقلته أيدي الشباب ووقعت أعينهم على المبحث الأخير والوطن يعاني من جفاء في الشعور وقصور في الفطرة وفقر في العاطفة بسبب التحذير على مدى عقود من الوطنية والولاء للوطن على يد الحركية التي تستهدف ذلك بقصد وترصد، حتى ولّد ذلك التحذير جيلاً حركياً يرى الوطنية كفراً ووثنية يجب محاربتها، فسعوا إلى تفجير مدخراته وطمس مكتسباته تحت ذرائع ومسوغات لا يقرها شرع ولا عقل ولا منطق.
ومن ينعم النظر ويمعن الفكر يجد أن هذا الجفاء للوطنية كان نتيجة تأصيل ممنهج من قبل منظري الحركية بعد ربطها بمصطلحات تنفر منها نفس المسلم كالوثنية والصنمية، ومن أمثلة ذلك ما ركزعليه مؤلف كتاب (إدارة التوحش) أبو بكر ناجي، الذي لا يجد حرجاً من الضرب على هذا الوتر حينما ينقل قول الشيخ العلامة (بزعمه) عمر محمود أبو عمر - فك الله أسره على حد زعمه-: (وهنا لابد من التنبيه على ضلال دعوة بعض قادة الحركات المهترئة بوجوب الحفاظ على النسيج الوطني أو اللحمة الوطنية أو الوحدة الوطنية ).
ولما كشف العلماء والمفكرون خطورة اختطاف المصطلحات الشرعية وتوجيهها لتحقيق مآربهم ومنها (الوطنية) لجأ الحركيون إلى إسلوب غير مباشر، يلبسونه لبوس الشرعية وينفذون من خلاله إلى تحقيق مكاسب حركية، فربطوا الحديث عن قضايا شرعية بمصطلح الغلو المرفوض شرعاً، ومن أمثلة ذلك الغلو في الوطنية والغلو في طاعة ولي الأمر.
والسؤال: كيف يكون الحديث عن هذين الأمرين غلواً وإنما أتى الحديث عنهما بسبب الهجوم الشرس عليهما من قبل جهات معادية تتربص بنا الدوائر؟!.. والجواب: إن الحديث عنهما من قبل العلماء وطلبة العلم والدعاة والخطباء والكتّاب في المنابر ووسائل الإعلام لا يعد غلواً وإنما هو تقرير لأمر شرعي تساهل الناس في حقيقته، وكلنا يذكر موقف العلماء الأجلاء وكثرة حديثهم عن بيان حقوق ولي الأمر لما تطاول بعض المحسوبين على الصحوة على النيل من حرمة الوطن وولي الأمر، مثلما وقف الإمام أحمد بن حنبل أمام محاولة بعض فقهاء بغداد الخروج على الخليفة في فتنة القول بخلق القرآن، ولم يذكر التاريخ أن حديث الإمام أحمد كان غلواً؛ لأنه كان رد فعل لمعالجة وتصحيح.
وهل يعد الحديث والدفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بعد الهجمة الشرسة ومحاولة تشويه صورته وسيرته، عن طريق تلك الرسوم في الدنمارك غلواً يستحق التحذير منه انطلاقاً من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)؟!.. وهل يناسب هذا الظرف الحديث عن مسألة الغلو والإطراء في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!.
إن المتأمل في الواقع الحركي يشهد أنه غير إستراتيجيته بعد بيان العلماء للموقف الشرعي تجاه هذه القضايا، فلجأ إلى تشويه من يحاول المعالجة والتصحيح تحت مظلة الغلو في الوطنية وطاعة ولي الأمر، وخير مثال إطلاقهم مصطلح (الجامية) على كل من يقرر مسألة طاعة ولي الأمر ويضبطها بضوابط الشرع ولمزه للتقليل من شأنه، بعد أن امتلأت الساحة أثناء أزمة الخليج وغزو صدام للكويت، بخطب نارية ومحاضرات تحريضية على ولي الأمر ونزع هيبته من نفوس الناس في وقت كنا في أمس الحاجة إلى اللحمة الوطنية ووحدة الصف قيادة وشعباً، في صورة لا تختلف كثيراً عن تشويه دعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب ولمزها بمصطلح الوهابية من قبل أعداء الدعوة السلفية ومن حطب في حبالهم من القبوريين والمبتدعة.. والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com