تحول أحد البرامج التي تحكي بصورة يومية مظاهر تحضر المجتمع الياباني ومقارناتها بعلامات تخلف المجتمع السعودي إلى سلسة أقرب إلى كوميديا طابعها البؤس والكآبة، فقد أصبحت حلقات البرنامج أشبه بحكم إدانة غير مسبوقة على تخلف إنسان المجتمع المسلم، والذي تلقى جرعات هائلة من الوعظ الديني خلال العقود الأخيرة، لكنها لم يكن لها تأثير في نقله إلى منزلة الإنسان المتحضر، وكانت بكل المقاييس غير مجدية، ولم تنجح في تعديل مسار تخلفه، وقد حاول مقدم البرنامج أن يؤدي دور الواعظ في سلسلته، وبالاستدلال بنصوص من القرآن والسنة ومن أفعال الرسول عليه أفضل الصلوات والتسليم وأقواله وتقريره، وذلك للتخفيف من قسوة المقارنة بين مجتمع يؤمن بالبوذية الوثنية لكنه متحضر، وبين مجتمع يفخر بأنه مسلم ينتمي لأمة محمد عليه الصلاة والسلام، لكن لديه ممانعة شديدة ضد التحضر..
ما يفعله مقدم البرنامج هو صورة مكررة من حلقات الإعجاز العلمي في القرآن في مواجهة أنباء التقدم العلمي الكبير في الغرب، فنحن دأبنا على تغطية تلك الهوة الكبيرة بمقولة أن إنجازاتهم العلمية وردت في القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرناً، وهو أسلوب أيضا غير مجدي، ويؤدي إلى مزيد من الاسترخاء والشعور بتحقيق الإنجاز، بينما نحن فارغون وبلا منجز حضاري، وما زلنا نعتقد أننا أفضل أمة أخرجت للناس، برغم أن مختلف الشواهد تدل على أننا في الوقت الحاضر أكثر أمة متخلفة في العالم، بل إن علامات تخلفنا أصبحت مادة إعلامية في البرامج الوثائقية والترفيهية.
فقد أصبحنا نعيش في حلقات مكررة من الإحباط والكآبة التي تكون بمثابة الصدمة الموجعة عندما نتوقف قليلاً عن تمجيد ماضينا، ونفخ ذواتنا عبر ترديد المواعظ والأقوال العظيمة التي جاء بها الدين الحنيف، فقد صارت تلك الذكريات بمثابة المسكِن الذي يخدرنا لكي لا نواجه حقيقة تخلفنا، ويأتي في مفعولها سعادة مؤقتة تعيد للمسلم شيء من كبريائه، لكنها لا تغير من أمره شيئاً..، فقد أضحى الإنسان في حالة هروب من واقعه، ويجد الملجأ في الرجوع إلى الوراء قرون عديدة والعيش قليلاً بين فصول التاريخ العظيم، ليعود من رحلته القصيرة، ويمشي زهواً وكبرياءً بين الناس، لا لسبب إلا أنه مسلم ينتمي لأمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، لكنها أمة عظيمة خلت، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وليس لهذا الإنسان المتخلف أي علاقة بتلك الأمة، ولم تعد طرائق الوعظ والنفخ مجدية، فنحن أكثر مجتمع تلقى وعظ ونصائح دينية في تاريخ البشرية، لكننا لا زلنا متخلفين وبامتياز..
يتميز إنسان هذا العصر بقدرته على التكرار، وترديد النصوص الدينية لكنه في نفس الوقت يعتلي قمة الفشل في واقعه المهني والإداري والعلمي، بل إن الوعظ بالدين صار لازمة لفظية عند الخارجين عن الشريعة والقانون والمخالفين لأبسط أصول الدين.. كذلك كان نتائج استغلال الخطاب الديني والتشدق المتكرر بالمثالية وبالالتزام بالتعاليم الدينية خروج أجيال مشحونة بالأفضلية المطلقة على بقية العالمين، وبطاقة هائلة وقابلة للانفجار، لكنها في حقيقة الأمر ليس لديها منجز حضاري، وهو ما أدى إلى انفجار بعض عبواتها في المجتمع، فما يحدث بيننا من تفجيرات وسخط كانت نتيجة غير مباشرة للشحن المستمر في عقول العوام، وربما حان الوقت لمراجعة أساليب الوعظ والإرشاد في المجتمع، ونقل الإنسان من جلسات الاستماع إلى ميادين العمل والإنجازات الإنسانية..، هذا الإنسان المثقل بكبرياء التاريخ شيء لا بد من تجاوزه، إذا لا يمكن أن نعالج التخلف الحضاري بترديد فقط ما وصل إليه أجدادنا الأوائل، وهو ما جعل من عقل الإنسان المسلم مثقلاً بالأفعال والأقوال العظيمة، ومخدراً بعظمة أمته وتاريخه المجيد، لكنه فارغ من الداخل، وعاجز عن الخروج من ذلك الفراغ، فهو لا يزال مزهواً بمقولة خير أمة وأفضل حضارة، في حين أن الإحصائيات والأرقام والواقع تدل أنه ليس له علاقة بتلك الأمة، وأن عليه أن يخرج من ذلك، وأن يتجاوز ذلك الإنسان من أجل مواجهة حقيقة أمره في القرن الجديد.