حاولت الكاتبة هدى المعجل تفكيك عبارة لنيتشه (الآلام المديدة، والكبيرة تربي الطاغية في الإنسان) وكادت أن تصل إلى نتيجة، أن (الآمال الكبيرة تربي في الإنسان الطموح ) كعبارة معاكسة، وربما كان يمكن لها أن تصل إلى نتائج أخرى، كعبارات عكسية لما طرحه نيتشه، ما أعجبني في المقال قيام الكاتبة بتفكيك العبارة، ولو على مستوى بسيط، وهو جهد رائع يستحق الإشادة، لأن عمليات المخ العليا التي تساعد الإنسان على درجات أعمق من التفكير، هي العمليات التي تكاد تكون مفقودة لدى أبناء دول العالم الثالث، والدراسات التي عملت في هذا الخصوص أكدت أن الأسباب الرئيسية لذلك تعود لفقدان التعليم في هذه الدول لممارسات وتطبيقات على تلك العمليات التي أبرزها: التفكيك، التركيب، التحليل، الاستنتاج، الاستنباط، التأويل.
ولماذا فقدت مثل هذه العمليات من التعليم بشكلها العميق، ربما للخوف في فترات ماضية من تلويث عقول الطلاب بأفكار يجهلها أبناء ذلك الجيل، أو لمحدودية النظرة لدى المخططين للمناهج أو واضعوها، وعدم تدريس الفلسفة في المرحلة الجامعية تعد ضمن منظومة الأسباب التي دعت أصحاب الفكر ذاته إلى الابتعاد عن إدراج مثل هذه العمليات، أو أنهم في تلك الفترة لم يكونوا قادرين على التخطيط للتعليم بهذا المستوى، وربما هذا الأمر لا يقتصر على تعليمنا، بل يتجاوزنا إلى كثير من الدول العربية.
أسباب كثيرة قد يكون فيها مجال لتبرير المرحلة السابقة التي على كل ما فيها استطاعت أن تقدم أسماء متميزة ولامعة، قدمت للوطن الكثير، وهذا أمر لا يمكن إنكاره على كل الأحوال.
نعود إلى قضية تفكيك عبارة أو جملة، وهو ما فتح مجال له الكاتبة المعجل، لست هنا للحديث عن التفكيكية كمذهب نقدي في الأدب، ولا أريد الغوص في الفهم الجوهري للتفكيك المرتبط بعمق النص وعمق الخطاب، وإعادة بناء النص في عملية تركيبية مرتبطة بالقراءة والتأويل كما فعل دريدا، وهذا ليس محور حديثنا، أنني أركز على مسائل بدائية في فكرة التفكيك التي يمكن لها أن تصبح جزءاً من نسيج المتعلم البسيط حتى لو كان في المرحلة الابتدائية، حيث إن مقارنة تفكيك نص ما، لا يمكن عزلها عن تفكيك أي جهاز أو آلة نضعها أمام نظر المتلقي، ومن ثم نكلفه بتفكيك تلك الآلة، عندما تقوم بتفكيك جهاز كمبيوتر مثلاً، ثم إعادة تركيبه، أو فك ساعة حائط، وهو أمر يسير يقع فيه الكثيرون.
لماذا عندما تحدثنا عن جهاز الكمبيوتر ربطنا القضية بعبارة (تفكيك) بينما في ساعة الحائط اقتصرنا على عبارة (فك) لأن كلمة تفكيك أشمل وأكثر عمقاً، فتفكيك جهاز كمبيوتر قد لا يتوقف على (الكيس والكي بورد) وخلاف ذلك، قد يتجاوز الأمر إلى تفكيك من نوع آخر يسمى (إعادة فرمته) وهو الأمر الذي يتطلب شطب وإلغاء وإعادة صياغة، وهي بطريقة أو ما عملية تفكيكية، حتى لو كانت يسيرة، أو ليست عميقة، بل أن حالة من حالات الميكانيكا، وتتلخص في (توضيب) مكينة سيارة، يتطلب تفكيكاً كاملاً للمكينة وإعادة صياغة كل جزء فيها بعد إصلاح التالف منها، وتغيير بعض القطع، ومن ثم إعادة تركيب تلك المكينة، المسألة بكل بساطة تتضح من خلال هذا المثال، وعندما نضع نصاً أمامنا ببساطة نحتاج إلى وضع كل عبارة على حدة، ومحاولة فهم تلك العبارة، ومناقشتها إن كانت تحتاج إلى ذلك، إذا كان الأمر لا يتعدى الرغبة في الفهم فقط للعبارة، أو النص، وإعادة تركيب الجملة من جديد، إن كنا نرغب في إيجاد بدائل صياغية للعبارة لتأخذ نسقاً آخر، وفي حالات القراءات والتأويل الأمر يأخذ أبعد من ذلك، حيث يركز على قراءة النص وتأويله، ومن ثم إعادة تركيبه برؤيا مختلفة من خلال قارئ النص ذاته، ومن هذا المنطلق كنت أتمنى أن تقوم هدى المعجل بإعادة تركيب العبارة لتكون منها عبارة إيجابية، قصيرة - كما أوردتها- في بداية المقال، وكانت الكاتبة تنتظر ونحن ننتظر.