قد تكون في المناسبة حكمة، وذلك استقراء من زمن المناسبة، وقد جاءت عقب أداء المسلمين لركن من أركان الدين عظيم، لبوا فيه نداء خالقهم مقتدين بأعظم قدوة تمثلت في سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.وقد تكون المناسبة إشعاراً ببدء مشوار جديد في مسار الحياة، فالأعياد محطات توقف لقطار الحياة عبر رحلته السرمدية....
...الكل يترك مقعده وينزل هنيهة ليتزود بما يعينه على استكمال مشواره، وقد يتخلف أحدهم في هذه المحطة أو تلك مكتفياً بما قطعه من مشوار.
يبدأ العيد بتلك اللمسة الحانية، واليد الممتدة لإسعاد ذي الحاجة، فهي أي زكاة الفطر (طهرة للصائم) فكأنما أراد رب العزة أن يطهرنا قبل أن نشهد هذا اليوم، والطهارة في معناها الأعمق، عودة بالجسد إلى الفطرة السليمة التي لم يدنسها شيء مما تفنن فيه الناس حين نسوا عقولهم وألبابهم وجفت قلوبهم، فالطهارة خير ما يتدثر به العبد عند استقبال يومه الجديد، زكاة الفطر، فلسفة إسلامية عظيمة، ومعنى سامق من المعاني الاجتماعية.. أولى بها أولو القربى إن كانوا من ذوي الحاجات، ثم جيرانك وأهل حيّك أو قريتك، فهؤلاء هم أعضاء مجتمعك المعاضدين لك، هم رفقاء مشوار الحياة السرمدي، فلابد من رابطة أقوى وأوثق تعينكم على قطع هذا المشوار، وتلك اللمسة الحانية وإنكان فيها قل، فهي كفيلة بمعناها الكبير أن تمس الشغاف من القلوب وتدفع بجديد من الدماء إلى جسد الإخاء والمحبة.
وقد تنتقل الزكاة إلى إخوان لنا في ركن ما من أركان هذه البسيطة، شملتهم رسالة الإسلام، ودخلوا في رحابه الطاهرة، فامتدت لهم أيادي إخوانهم، بيضاء من غير سوء، تأكيداً لرابطة الإسلام وأخوة الدين.. لترتفع أكفهم بالدعاء والتضرع لإخوان لهم لم تكتحل عيونهم بنعيم مشاهدتهم وإن أدركتهم نفحاتهم وخلجات صدورهم.
إذن جاء العيد، وقد سبقته هذه النفحات، نفحات الشهر الكريم، ونفحات الخيرين وقد امتدت أياديهم في خفية لتؤدي حق الاخوة ولكي تكتمل تلك الطهارة المنشودة قبل استقبالهم ليوم جائزتهم امتلأت المساجد.. وما زالت أفواج المصلين تتزاحم في الشوارع والطرقات وعلى أبواب المساجد، زرافات ووحدانا، ليشهدوا هذه الشعيرة العظيمة، ما أجملها من لوحة، لقد بدأ العيد بالصلاة، وهي الصلة بين العبد وربه، فكأنما أراد العبد تجديد عهده بخالقه، استشعاراً منه بحاجته إليه، وتأكيداً منه لعبوديته وإخلاصه في تلك العبودية.. صلاة العيد.. لوحة اجتماعية فريدة، الأب مع الأبناء والحفدة، جاءوا جميعا ليتصافحوا بعد قضاء صلاتهم، وهي مصافحة لها معناها وفلسفتها، مصافحة في بيت الله، لا رياء ولا سمعة، بعد أن أدوا شعيرة صلاة العيد.
للأطفال نصيب وافر من بهجة العيد، وإن قصرت بهم عقولهم لسبر أغوار وإدراك المعنى الكبير الذي يحمله، لكنهم لبنات في صرح المجتمع المسلم، يمثلون كل مستقبله، فلابد من إعدادهم الإعداد المناسب، ومدرسة المسجد، هي العدة والعتاد، لذا جاءت وصية سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم بضرورة اصطحاب الصغار إلى المساجد ليستوعبوا معاني الجماعة والمؤاخاة والتعاون، وليدركوا هذه الروح التي تدب في الجسد الإسلامي، وليتشربوا من نفحات المكان والزمان..
وفي تصفحنا لهذا السفر العظيم، نرى تلك اللوحة الزاهية، عندما يتصافح الخصوم، وأصحاب الهنات، وقد نسي الكل إحنه وضغائنه، قد تضعف القلوب لتأخذ العيون مواقعها، فتزرف ما شاء لها من دمع لتزيل تلك النكت السوداء من القلوب.. ما أجمله من مشهد.. إنها فسيفساء العيد صاغتها تلك الفرشاة العجيبة لتنقش آياتها على صفحات دفتره.
لعل المتنبي كان محقاً عندما خاطب المعاني السامية للعيد، فهذا اليوم الأغر فقد معناه عند أبي الطيب لأنه اختاره يوما لفراره من بطش الإخشيدي وقسوته، فهو أعرف ما يكون بمعاني العيد، وما تحتويه هذه المعاني من سمو، لذا خاطبه بقوله: (بما مضى أم بأمر فيك تجديد) ولعله يتحسر في مستهل قصيدته على ضياع بهجة ذلك اليوم الذي اختاره لفراره، لأنه يحس بمرارة ما فعل، لأنه لم يحفظ للمناسبة العظيمة وقارها وسكينتها، ولم يحتف بالقادم الجديد كما يجب أن يكون الاحتفاء، لكنه يتسلى بأنه الفرار من السجن وشراء الحرية التي يغلو ثمنها، وإن كان في مقابل مثل هذه المناسبات السعيدة.
العيد ثقافة، غرسها الإسلام وتعهدها بالري والسقيا، حتى نما عوده، وتفرعت فروعه، إنها وديعة قديمة استودعناها لنجدد من خلالها تلك الأيام الطيبة وتلك المعاني السامقة السامية.
ومن فلسفة العيد، أنه تلى الشهر الكريم مرتبة وزمانا، وهو ترتيب عقلاني يعقله ألو الألباب، لكن ثمة تداخل قلبي يجمع ما بين المناسبتين، وثمة رباط روحي يربطهما معا، فزكاة الفطر، وهي مقدمة للعيد، طهرة للصائم، وأجر الصوم معلق بين السماء والأرض لا يرفعه إلا زكاة الفطر، والأهم أن العيد يوم فرحة بما أنجز، فرحة المسلم بأدائه ما افترض عليه وهذا يكفيه شرفاً وسمواً.
يا عيد، قد جئت إيذانا برحيل تلك الأيام التي تحمل في راحتيها، الشهد والعلقم، شهد نستطعمه شكراً لواهب النعم على ما أنعم علينا بفضائل صيام شهره ونيل أجره، وعلقم نتجرعه حزنا على فراق تلك الأيام الطيبة المباركة، المفعمة بكل ما هو خير وبركة.. إنها فلسفة العيد، تفرحك وتبكيك في آن، وكلا الحالتين في ميزان الكون أجر، فالفرحة بما أنجز خير كثير، والحزن على فراق الصلاح والخير، خير وبركة، وكلها اجتمعت في المعنى الكبير للعيد فجئت أهلا ونزلت سهلاً.