منذ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة عام 1923م إثر تحرير مجمل الأراضي التركية نتيجة حرب التحرير بقيادة مؤسس الدولة الحديثة مصطفى كمال أتاتورك انتهجت الدبلوماسية التركية سياسة منغلقة داخلياً لاعتماد المنهج الكمالي سياسياً وتثبيت أركان الدولة الجديدة وترسية التغيرات الاجتماعية والسياسية المرافقة لإعلان هذه الجمهورية الفتية داخلياً وإعلان جملة من القرارات الإستراتيجية أهمها استبدال الأحرف اللاتينية محل الحرف العربي والتغيير الاجتماعي الثاني باختيار الزي الأوروبي بقبعته الغربية المميزة بدل الطربوش العثماني وإعلان السفور النسائي بدل الحجاب الإسلامي واستمر هذا الانغلاق السياسي والاقتصادي طيلة الفترة الأولى من حكم الحزب الوحيد (حزب الشعب الجمهوري برئاسة الزعيم أتاتورك) وبدّل في أواخر الثلاثينيات الاتجاه نحو تشكيل محور ألماني تركي جديد، إلا أن الدبلوماسية التركية آنذاك ممثلة بشخصية عصمت إينونو ساعد أتاتورك الأيمن وأبو معاهدة لوزان التي ثبتت حدود تركيا الحديثة استطاعت هذه الشخصية المميزة من تجنيب تركيا ويلات الحرب العالمية الثانية بإعلان حياد تركيا وجنب هذا القرار التاريخي ويلات الحرب الأممية الثانية وما نتج عنها من دمار عمراني شامل وسقوط ضحايا بشرية تجاوزت المئة مليون إنسان وبقي في تلك المرحلة اتجاه الدبلوماسية التركية نحو الغرب وتجميد دورها في الشرق الأوسط ومع تولي الحزب الديمقراطي في الخمسينيات زمام الحكم في تركيا بزعامة الرئيس عدنان مندرس والذي بدأ تحت تأثير وزير خارجيته فطين أوغلو واضحاً بدفع السياسة التركية نحو الشرق العربي للعلاقة الشخصية التي تربط نوري السعيد (رئيس وزراء العراق المخضرم) بصديقه عدنان مندرس. والذي أوجد مناخاً جديداً لعلاقات ثنائية مميزة بين بغداد وأنقرة.
وجاءت النتائج السياسية للزيارة التاريخية الناجحة التي قام بها شهيد القدس الفيصل (أسكنه الله فسيح جناته) فشكلت بداية لمرحلة جديدة من العلاقات الطيبة بين تركيا والعالم العربي والإسلامي. وكانت كلمة رئيس الجمهورية التركية جودت صوناي ترحيباً بضيفه الملك فيصل رحمه الله وثيقة سياسية وتاريخية تحدد إطار العلاقات المتينة مع المملكة العربية السعودية ومن خلالها بالعالم الإسلامي. وقد أعلن الرئيس التركي ولأول مرة من خلالها الاعتراف بحق الفلسطينيين بإقامة دولتهم على ترابهم الوطني وإعلان الدبلوماسية التركية بترحيبها بافتتاح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة أنقرة بصفتها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني والتعهد بالدفاع العادل عن قضيته المصيرية وتبني الرئيس سليمان ديميريل ووزير خارجيته إحسان صبري جاغلينكل الدعم السياسي والدبلوماسي لتنمية هذا التحول في السياسة التركية باتجاه الشرق العربي ونتيجة لهذا التحول الإيجابي تحقق لتركيا الدولة مكاسب اقتصادية كبيرة كان باكورتها عقد خط جيهان البترولي مع الدولة العراقية وانتفاع الاقتصاد التركي بتدفق تراكمي من العملات الأجنبية مقابل حصتها بمرور هذا الخط الإستراتيجي الاقتصادي عبر أراضيها وتصديره للدول الأوروبية عبر موانئها الواقعة على البحر الأبيض المتوسط وشكلت مشاركة الشركات الإنشائية التركية منذ عام 1977م بمساهمتها البارزة بالنهضة العمرانية التي عاشتها بلادنا العزيزة أثناء تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية الشاملة.
وبدا التميز الدبلوماسي الظاهر نحو الشرق العربي والإسلامي بوصول حزب العدالة والتنمية للحكم عام 2000م وبأغلبية انتخابية ساحقة برهنت على اختيار الشعب التركي الشقيق للتيار الإسلامي الوسطي المعتدل ولأول مرة يعلن الرئيس رجب طيب أردوغان وزارته الأولى ببرنامج إصلاحي سياسي واقتصادي واسع متعهداً بتنمية الاقتصاد التركي وتقليص البطالة وتشييد المساكن الشعبية ومد أكثر من 2500كم من الطرق البرية المعبدة وتوثيق العلاقات الودية المتينة مع العالم العربي والإسلامي وحقق الرئيس أردوغان ما وعد به شعبه وناخبيه والذي قابله بالدعم والتأييد بالانتخابات الثانية وبأغلبية ساحقة ونهج بسياسة خارجية متوازنة معتمدة على الرغبة الأكيدة في المشاركة بالاتحاد الأوروبي والتركيز أيضاً على اهتمامه بعلاقات مميزة مع الدول الإسلامية الناطقة باللغة التركية في وسط آسيا والمتحررة من النفوذ السوفيتي وبنفس الرغبة الصادقة برسم علاقات وثيقة مع المتراكم الإيجابي مع دول الشرق الأوسط وبالذات دول العالم العربي وبرز الدور التركي الدبلوماسي في هذه الفترة بانتهاج مهمة الوسيط الصادق والشريف في محاولة إنهاء الخلافات الإقليمية المزمنة في العالم الإسلامي والعربي وتمثل ذلك في المساعي المخلصة للدبلوماسية التركية في تقريب وجهات النظر في المفاوضات غير المباشرة بالاستماع للمفاوض السوري والإسرائيلي للوصول إلى جوٍّ مناسب للمفاوضات المباشرة وأشادت الشقيقة سوريا بصدق نوايا الوسيط التركي وحياديته واشترطت استمراريته بالإشراف على هذه المفاوضات الهامة والتي قد تأتي نهايتها بالسلام المنتظر للمنطقة على أساس تحقيق الحق العربي العادل. وحضرت الدبلوماسية التركية بكل معاني الأخوة والصداقة والجوار ممثلة بجهود شخصية مهندسها الجديد وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو والذي يعرف بخبرته الدبلوماسية العالية وإيمانه بنظرية التكامل السياسي والاقتصادي التركي والعربي لتحقيق المصالح العليا لكل دول المنطقة. وقد بذل جهوداً مشكورة بزيارات مكوكية بين دمشق وبغداد لتقريب وجهات النظر والتي أثمرت بتهدئة الوضع باجتماع إسطنبول والذي أشرف شخصياً على جلساته. وحظي هذا التوسط الأخوي لجارتي تركيا (سوريا والعراق) بدعم القيادة التركية وبتوجيه صادق من الرئيس عبدالله كول وللوصول إلى اتفاق ينهي كل مسببات الخلاف وتطويقه إقليمياً ومنع توسعه نحو المجال الدولي وجعله ضمن إطار الجامعة العربية ودول الجوار العراقي السوير.
لا يخفى على أي محلل سياسي الدور التركي الهام في المجال الإقليمي والدولي والذي نتمنى أن يوجه نحو خير العالمين العربي والإسلامي بوضعه في مقدمة البرامج المستقبلية الهادفة لحل قضايانا المصيرية وتنمية التكامل الاقتصادي والسياسي مع الشقيقة تركيا وشعبها المسلم للوقوف سداً منيعاً بوجه التهديدات الإقليمية والدولية لمصالح أمتنا العربية والإسلامية وتثبيت أمنها واستقرارها والتطلع المستقبلي الإقليمي من أجل مشاركة السياسة التركية في مضمار العلاقات العربية الإسلامية لرسم خارطة طريق حديثة وصادقة تحقق الأمن والرفاه الاقتصادي والأمن الاجتماعي للمنطقة بأكملها وتحجيم كل المحاولات الحاقدة للتدخل الإقليمي والدولي بالسياسات الداخلية لدول المنطقة مع دعواتنا الصادقة بالتوفيق للجهود المخلصة للزعيمين الشقيقين صقر العروبة الملك عبدالله وأخيه الرئيس عبدالله كول لتحقيق الأهداف السامية من أجل خير أمتنا العربية والإسلامية.
عضو هيئة الصحفيين السعوديين - جمعية الاقتصاد السعودي