قال أحدهم ناصحاً مقتراً، ما بالك تجمع المال ولا تصرفه، وتحفظه ولا تنفقه، وتورده ولا تصدره، والله ليس المال إلا أمانة ابتليت بها، فما عليك إلا أن تصرفها في أوجهها، لتنال رضا الله وحمد الناس، واسترسل الناصح في نصحه ووعظه، وترغيبه وترهيبه، لكن المقتر لم يرق له القول ولم تصغ أذنه لما قال صاحبه، فأردف قائلاً: إنك ستترك المال لمن سيخلفك، فالتفت المقتر إليه قائلا: (لم أخش يوماً يا صاحبي ترك المال، لكن ما أخشاه أن يتركني المال).
|
دفعني هذا القول إلى الحديث عن نقيضه حيث لا يخلو بنو البشر من قابض مقتر، أو مسرف مبذر، فورد إلى خاطري الأمير عبدالرحمن الأوسط الأندلسي الذي كان متلافاً للمال، ومن ذلك أنه أمر لجاريته (طروب) بعقد جوهر كانت قيمته عشرة آلاف دينار، فجعل بعض من حضره من وزرائه وخاصته يعظم ذلك عليه ويقول: (إن هذا العقد من الأعلاق الثمينة المدخرة للنوائب، فقال الأمير عبدالرحمن: ويحك! إن لابس العقد أنفس خاطراً، وأرفع قدراً، وأكرم جوهراً، ولئن راق من هذه الحصباء منظرها، ولطف إفرندها) ويقصد بالحصباء الياقوت واللؤلؤ والجواهر (فلقد أوجد الله من خلقه البشري جواهر تعشى منها الأبصار، وتتيه الألباب، وهل على الأرض من شريف جوهرها، وسني زبرجدها ومستلذ نعيمها، وفاتن بهجتها، أقر لعين أو أجمع لزين من وجه أكمل الله حسنه، وألقى عليه الجمال بهجته؟ ثم دعا بعبدالله بن الشمر شاعره وجليسه، فذكر له ما كان بينه وبين وزيره في شأن العقد، وقال: هل يحضرك شيء في تأكيد ما احتججنا به؟ قال: نعم: وأطرق بريهة ثم أنشأ يقول:
|
أتقرن حصباء اليواقيت والشَّذر |
إلى من تعالى في سنا الشمس والبدر |
فأكرم به صيغة الله جوهراً |
تضاءل عنه جوهر البر والبحر |
له خلق الرحمن ما في سمائه |
وما فوق أرضه ومكن في الأمر |
فأعجب الأمير عبدالرحمن ببديهته وتحركت شاعريته فانشأ أبياتاً يثني بها على شاعره، وهذا ليس مقام إيرادها.
|
لم يبال عبدالرحمن الأوسط بما ذهب من بيت مال المسلمين في سبيل إسعاد جاريته المسماة (طروب) فهي أنفس وأقدر وأكرم، وانبرى شاعر متملق لا يهمه سوى إرضاء الأمير عبدالرحمن الأوسط ومقدار المكافأة التي ينالها وكان الشاعر المنافق لا يعلم أن الحصباء (أي الجواهر) التي في خزانة بيت مال المسلمين هي ملك لعامة الناس تستخدم لردع العدو، ورفع المظالم، والصرف على الرعية، بينما (طروب) جوهر إنساني لا يستمتع بها سوى الأمير عبدالرحمن الأوسط، وربما خادمه (نصر) كما يلمز إلى ذلك بعض المؤرخين.
|
وفي قصة أخرى للأمير عبدالرحمن الأوسط أن زرياب المغني المشهور غنّى يوماً في مجلس أنس لعبدالرحمن الأوسط فاستحسنه، فقال: يؤمر الخُزّان أن يدفعوا إليه ثلاثين ألف دينار، فأتاهم صاحب الرسائل بأمر الأمير، فنظر الخُزّان بعضهم إلى بعض، فقال لهم موسى بن جدير، وكان شيخهم: أشيروا عليّ، فقال له أصحابه: ما لنا قول مع قولك: فقال لصاحب الرسائل: نحن وإن كنا خُزّان الأمير، أبقاه الله، فنحن خُزّان المسلمين، نجبي أموالهم ونصرفها في مصالحهم، ولا والله ينفذ هذا، ولا منا من يرضى أن يرى هذا في صحيفته غداً، أن نأخذ ثلاثين ألفاً من أموال المسلمين وندفعها إلى مغن في صوت غنّاه، وعلى الأمير، أبقاه الله أن يدفعه من عنده.
|
فانصرف صاحب الرسائل إلى الخارج بالصك إلى الأمير، وقال للأمير: نافق الخُزّان، فقال زرياب وكان جالساً: ما هذه طاعة! فقال الأمير عبدالرحمن الأوسط: هذه طاعة، ولأوليتهم الوزارة على هذا الأمر، وصدقوا فيما قالوا ثم أمر بدفع المال مما عنده.
|
قصتان من قصص الأمير عبدالرحمن الأوسط المعروف بالبذل والسخاء حتى تجاوزه إلى التبذير والإتلاف.
|
وهناك مساحة واسعة بين التقتير والإسراف يمكن لأحدنا أن يضع نفسه في المكان الذي يختاره فربما يكون كريماً إلى حد لا يصل معه إلى الإسراف، أو مقتصداً إلى حد لا يبلغ معه التقتير، وهذه المساحة الواسعة في نظري مقبولة وأي مكان اختار موقعه فيها فلم يتجاوز حقاً، ولم يعدل إلى باطل، ولم يتجاوز مألوفاً، وأغلب الناس في تلك الساحة، والعرب في أعلاه في اتجاه الكرم، وهناك أقوام في أدناه في اتجاه التقتير، ولقد ذكر صاحب كتاب الأمالي تلك الأقوام، جعلنا الله كرماء غير مسرفين، وباذلين المال فيما أمر به المعطى والمانع.
|
|