Al Jazirah NewsPaper Friday  23/10/2009 G Issue 13539
الجمعة 04 ذو القعدة 1430   العدد  13539
(الجزيرة) تختتم سلسلة حلقاتها عن هذه القضية (4-4)
الخطاب الديني الغائب عن القضايا التنموية والقيم الحضارية

 

الرياض - خاص (الجزيرة)

ي الحلقات الثلاثة الماضية طرحت (الجزيرة) كيفية تجديد الخطاب الديني، ومن المسؤول عن هذا التجديد، والفرق بين تجديد الوسائل والأدوات، والمساس بالثوابت، وأن تجديد الخطاب يتطلب اجتهاداً جماعياً من المؤسسات الشرعية، والمجامع الفقهية، بعيداً عن الإثارة.

وتختتم اليوم الحلقة الرابعة حول الأهداف المرجوة من تجديد الخطاب الديني، ودوره في التنمية والارتقاء بالمجتمعات المسلمة.

الحذر من التيارات المعاصرة

يرى د. ناصر بن عبدالكريم العقل أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أن الخطاب الديني ينطلق في أصوله وقواعده وغاياته من الوحي المعصوم: كلام الله وكلام رسوله الذي لا ينطق عن الهوى، ومن ثم فهو أسلم سبيل لدفع القيم الحضارية وخدمة الإنسانية على أسس مأمونة، تضمن للإنسانية تحقيق السعادة والأمن والرخاء والسلام في الدنيا والنجاة في الآخرة.

وعليه فالخطاب الديني المعتدل الذي هو منهاج النبوة يعتمد على محورين، أحدهما لا يقبل الاجتهاد؛ فهو تنزيل من حكيم حميد. والثاني يقوم على الاجتهاد إذا توافرت شروطه:

فالمحور الأول: الثوابت التي ينطلق فيها الخطاب في رسالته: أسسه وغاياته، وهذا المحور يلتزم العقيدة بأصولها وقواعدها ومصطلحاتها النصية وحقائقها الشرعية: كأركان الإيمان وأركان الإسلام، والتوحيد، والقطعيات، كقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، (ولا تقربوا الزنا)، (وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) ولزوم السنة والجماعة والطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك من الثوابت بألفاظها ومعانيها وحقائقها؛ فهي من الأصول التي يجب أن يلتزمها الخطاب الديني، وهي منطلقاتها الضرورية.

والمحور الثاني: وهو الوسائل والأدوات، والشرح والبيان والعرض والأساليب البيانية، والدراسات والبحوث والإحصاءات، والحوارات، والمناقشات ونحو ذلك، فإن الخطاب الديني (كغيره) يجب أن يرتقي إلى أرقى الأساليب ويواكب المستجدات، ويأخذ بأحدث المناهج والوسائل المعاصرة، بل يجب أن يسبق إلى التجديد والتحديث بالضوابط الشرعية والثوابت العقدية وأخلاقيات المسلم في خطابه وحواره.

ومن هنا يجب أن نتنبه إلى خطورة بعض التيارات المعاصرة التي لا تفرق بين الثوابت وبين المتغيرات، وبين ما يقبل الاجتهاد والرأي الآخر، وبين ما هو من مسلَّمات الدين التي يجب عدم المساس بها فنادت بعض هذه الفئات إلى ما يصادم الدين الحق، ويوقع المسلَّمات في مهاوي الضلالات والبدع والرذائل، تحت شاعرات التجديد والتحديث وتطوير الخطاب الديني.

توظيف الإمكانات

ويقول د. إبراهيم بن ناصر الحمود الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء: لقد أنعم الله على هذه الأمة بنعمة الإسلام، ولن يقبل الله ديناً سواه، قال تعالى في الآية (85) من سورة آل عمران (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وأنزل إليها أفضل كتبه، وأرسل إليها أفضل رسله للناس كافة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، قال جلَّ وعلى في الآية (125) من سورة النحل (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

ووظيفة الرسل جميعاً هي الدعوة إلى دين الله وتوجيه الناس إلى ما يصلح حالهم ومآلهم، وما يفي بشؤون حياتهم، وهكذا سلك نهجهم الخطباء والدعاة والمصلحون في عصرنا الحاضر، وذلك عن طريق الكلمة الطيبة والرسالة الهادفة والخطبة المنبرية النافعة والندوة والمحاضرة، وغير ذلك من الوسائل الدعوية المعاصرة.

إن مهمة إرشاد الناس وتوجيههم من المهام الصعبة، خاصة بعد أن تعددت وتنوعت أساليب الخطاب الديني في المجتمع المتحضر تبعاً لتنوع مجالات الحياة ليشمل أنحاء البلاد وكافة شرائح المجتمع، ولاسيما في تنمية الوعي الديني والقيم الأخلاقية ونبذ التعصب والإرهاب والعنف الذي ابتُليت به بعض المجتمعات؛ ما يزيد من مسؤولية الخطاب الديني في العصر الحاضر، فضلاً عن دوره في نشر الثقافة الإسلامية.

وبناء عليه، فإن على المؤسسات الحكومية وغير الحكومية توظيف كافة إمكاناتها للعمل على النهوض بشؤون حياتها (العلمية والصحية والظروف المعيشية والسكانية والبيئية)؛ ما من شأنه دفع عجلة التنمية في سبيل تحقيق النهضة الشاملة، وهذا نوع من تطوير الخطاب الديني، بحيث لا يقتصر على الوعظ والإرشاد فحسب؛ فإن مهمته أوسع وأشمل من ذلك.

وحتى يتحقق هذا الدور جلياً فلا بد من التوسع في الزمان والمكان كي يتصف الخطاب الديني بالشمولية تبعاً لشمولية الإسلام لكافة شؤون الحياة؛ لكي يؤدي دوره على الوجه الأكمل، أضاف إلى ذلك أنه ينبغي التصدي لكافة التحديات والعوائق التي تحول دون تحقيق أهدافه.

ومن الوسائل المعينة على ذلك: نشر المفاهيم الإسلامية الصحيحة، وتنمية الوعي الديني بين أفراد المجتمع، وإحياء رسالة المسجد وتعزيز دوره، وتحسين أوضاع القائمين عليه، وتحديث أساليب الخطاب الديني وآلياته، وتأهيل الخطاب والمرشدين والدعاة وتنمية قدراتهم وتعزيز علاقات التعاون مع الوزارات والهيئات والجامعات والجهات ذات العلاقة من أجل الحفاظ على أمن الوطن ومكتسباته، كما أنه على الخطباء والمرشدين الالتزام بحرية الرأي وأدب الحوار وفق القواعد الشرعية، والبُعد عن التجريح والإساءة والتعصب والحزبية واحترام المذاهب الإسلامية المعتبرة، ونشر التسامح والتعايش والتكافل الاجتماعي والتآخي بين أفراد المجتمع، وإبراز الفكر الإسلامي، وبيان دوره الرائد في رقي الأمة وحضارتها. إذا تحققت هذه الوسائل نستطيع القول بأن الخطاب الديني هو الوسيلة التي تعتمد عليها الأمة في إيصال المفاهيم الإسلامية للناس، ومعالجة قضاياهم، يتجدد في كل عصر بما يتناسب وطبيعته وواقع المجتمع، مع الحفاظ على ثوابته ومقاصده وأهدافه، مستفيداً من الإنجازات وتطور وسائل الاتصال الحديثة، ومواكباً لكل مستجدات العصر.

مصطلح اتصالي

ويضيف د. الحمود أن ثمة تلازماً بين المعنى الحق للدين الحنيف، وأسلوب نقله للناس وتبيينه لهم. وكما كان (التبيين) أو (الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة) تتضمن كل أمور الدين من حيث المعنى والمبنى، فالأصل أن تركيباً لغوياً جديداً مثل (الخطاب الديني) يعبر، أيضاً، عن المعاني والأشكال، في الدعوة لدين الله. ويدعو الناس إلى المثل العليا في تصريف شؤون حياتهم، في كل ما هو ضروري للنمو والتقدم الحضاري.

وتفيد المراجعة العلمية المتخصصة بأن اشتقاق هذا التعبير جاء من دراسات الاتصال، باعتبار أن (الخطاب) مصطلح اتصالي شائع لدى علماء الاتصال ولدى المشتغلين بصناعة الإعلام في العصر الحديث. وبالتالي لا ضير من استخدام هذا المصطلح للدلالة على نوع معين، أو صنف خاص من أنماط الاتصال الإنساني، حيث يستخدم مصطلح (الخطاب) مع جُلّ التخصصات مثل: (الخطاب السياسي) و(الخطاب الثقافي) وغيرهما.

وإذا أدركنا هذه الحقائق المهمة اتضح لنا الدور الكبير الذي يقوم به (الخطاب الديني) في دعم عمليات التنمية في المجتمعات الإسلامية، بل وفي جميع المجتمعات الإنسانية باعتبار أن رسالة الإسلام للناس كافة. ويمكن النظر إلى أهمية (الخطاب الديني) في العملية التنموية من عدة مجالات، من أهمها:

أولاً: أن (الخطاب الديني) هو أساس مجمل (الخطابات) التي يمكن أن يعنى بها المسلمون لتحقيق تنمية متوازنة في أبعادها الأخروية والدنيوية، وفق شرع الله الحكيم، فالقصور في مخرجات (الخطاب الديني) يقود إلى جهل الناس بأمور دينهم.

ثانياً: أن العناية ب(الخطاب الديني) وتعهده بالتطوير، والتأكد من مناسبته لأحوال العباد والبلاد حيناً بعد حين، من أصل التشريع الحكيم، الذي أكد على توافر (الحكمة) و(الموعظة الحسنة) و(المجادلة بالتي هي أحسن)، ولا شك أن مجمل هذه الأمور متغير ومختلف بحسب الأزمنة، والأماكن وأحوال الناس؛ إذ من الحكمة أن يراعي (الخطاب الديني) جميع خصائص المجتمع الراهن ويتعامل وفقا لها.

ثالثاً: لا جدال في أن الدين الحنيف صالح لكل زمان ومكان، وبالتالي، فإن من مقتضيات هذه الحقيقة أن يعنى المسلمون بتعهد (الخطاب الديني) بما يحقق الأهداف الكلية للمجتمع المسلم في كل زمان ومكان، بحسب ما يجد ويُحدث، (تبيينا) للناس في أمور دينهم وفق ما يمكنهم به فهمه وإدراكه.

وأخيراً، بقي أن أنبه إلى أمر مهم جداً، وهو أنه في معرض الحديث عن أهمية (الخطاب الديني) في عملية التنمية الشاملة، ودوره الرئيس في بيان الحق للناس، فقد يأتي من يجرد (الخطاب الديني) من محتواه الشرعي الرصين. وتأتي مثل هذه الأطروحات المضللة بعدة دعاوى أو مسمَّيات، ازدهرت في فترة سابقة تحت مسمى (تجديد الخطاب الديني) حيث انبرى للحديث عن (تجديد) الخطاب نفر ممن لهم نصيب في العلم الشرعي. وفي ذلك خطورة كبيرة، من أن تصاغ مفاهيم (الخطاب الديني) دون تبصر بأحكام الدين الحنيف. فالذي أجده لازما، ونحن نتحدث عن دور (الخطاب الديني) في عملية التنمية، هو أن (الخطاب الديني) التنموي يجب أن يكون منضبطاً بشرع الله تعالى، وملتزماً بأحكامه وشرائعه شكلاً ومضموناً، وأن يكون من يتصدى لصياغة (الخطاب الديني) التنموي ممن جمعوا بين العلم الشرعي وعلوم الاتصال الإنساني المعاصر.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد